عصر الحكم المستنصر (٣٥٥هـ - ٩٦٦٠م)، ثم في عهد الطوائف (٤٥٧هـ - ١٠٦٥م)، وكانت في كل مرة تبث الذعر والروع والخراب أينما حلت، بيد أنها كانت ترد على أعقابها بعد معارك برية وبحرية طاحنة؛ وكانت تقنع دائماً بما تحصل من الغنائم والسبي، ولا تمكن من البقاء أو الاستقرار وسير هذه الغزوات البحرية مشهورة في الروايات الإسلامية والنصرانية، وليس من موضوعنا أن نعي بتفاصيلها، وإنما نعني هنا بحادث دبلوماسي شهير، كان من بعض آثار هذه الغزوات، وهو من الحوادث الدبلوماسية الفريدة في علائق الشرق والغرب والإسلام والنصرانية.
قام النورمانيون بغزوتهم البحرية الأولى لشواطئ الأندلس في سنة ٢٣٠هـ (٨٤٣م) في عهد عبد الرحمن بن الحكم، وعاثوا في بسائط أشبونه وأشبيلية ولبلة؛ ولم يستطع الأندلسيون رد أولئك الغزاة الشقر إلا بعد جهود جهيدة ومعارك طاحنة، وبعد أن رأوا من جرأتهم وشجاعتهم وشدة فتكهم ما يؤذن بانتمائهم لأمة قوية عظيمة؛ عندئذ رأى أمير الأندلس عبد الرحمن ابن الحكم أن يسبر غور هذه الأمة المجهولة، وأن يسعى إلى مهادنتها وعقد أواصر الصداقة معها، في نفس الوقت الذي يعنى فيه بتقوية الأسطول وتحصين الثغور، فانتهز فرصة مقدم الرسل النورمانيين إلى قرطبة لعقد الصلح بعد هزيمة الغزاة وجلائهم عن الثغور الأندلسية، وقرر أن يوفد معهم إلى ملك النورمانيين سفارة يؤكد بها المودة والصداقة.
واختار أمير الأندلس لسفارته رجلاً جعلته صفاته الخاصة خير من يستطيع الاضطلاع بتلك المهمة هو يحيى بن الحكم المعروف بالغزال؛ وكان الغزال شاعراً رقيقاً من أهل جيان، وكان يومئذ من أكابر رجال الدول والبلاط، يصطفيه عبد الرحمن ويؤثره برعايته وتقديره لما كان يتمتع به من خلال وكفايات خاصة في الإدارة والسياسة. وكان عبد الرحمن قد اختاره قبل ذلك ببضعة أعوام ليكون سفيره لدى قيصر قسطنطينية الإمبراطور نيوفيلوس؛ وكان الإمبراطور قد بعث إليه سفارة وهدية فخمة ليخطب وده ومحالفته ويرغبه في ملك أجداده في المشرق حقداً منه على المأمون والمعتصم؛ فرحب عبد الرحمن برسل الإمبراطور، وبعث إليه يحيى الغزال بهدية فخمة (٢٢٥هـ - ٨٣٦م) فأدى الغزال سفارته ببراعة، واستطاع أن يخلب الباب الإمبراطور وبطانته بذلاقته وحسن بيانه ورقة