تصانيفهم، وألا يلزموا الفقهاء بحفظ شيء منها، بل يذكروا كلام المشايخ تأدباً معهم، وتبركاً بهم. فأجاب جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي مدرس الحنابلة بالسمع والطاعة. وقال سراج الدين عبد الله الشرمساحي مدرس المالكية:(ليس لأصحابنا تعليقة، فأما النقط من مسائل الاختلاف فمما أرتبه). وقال شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية، وأقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني مدرس الحنفية:(إن المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال) فكانا أفضل القوم إجابة. ثم أوصل الوزير أمر ذلك إلى المعتصم بالله، وكان قد ولى أمر الدولة بعد أبيه المستنصر، فتقدم إليهم أن يلزموا بذكر كلام المشايخ واحترامهم فأجابوه بالسمع والطاعة. وذهب إباء مدرس الشافعية والحنفية في الهواء. ولو أنهما استمرا على إبائهما لكان جزاؤهما القتل أو نحوه.
ونستطيع بعد هذا أن نحكم بأن منع الاجتهاد لم يتم إلا في عصور الظلم، وبأن قصر الناس على هذه المذاهب الأربعة حصل بوسائل غير مقبولة من القهر والإغراء. وفي يقيننا أنه لو أتيح لغير هذه المذاهب ما أتيح لها من تلك الأوقاف والرواتب لكان حظها من البقاء مثل حظها، ولبقيت معروفة مقبولة ممن يجهلها اليوم أو ينكرها.
وقد حوّلت هذه الوسائل لإلزام الناس بهذه المذاهب قبل هذه العصور فلم يرض بهذا المسلمون حتى أصحاب هذه المذاهب. روى أبو نعيم في الحلية عن مالك بن أنس أنه قال: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه؛ فقلت لا تفعل، فان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب. فقال وفقك الله تعالى يا أبا عبد الله.
وروى ابن سعد في الطبقات عن مالك بن أنس قال: لما حج المنصور قال لي قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدوا إلى غيره، فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم.
فنحن إذن في حل من أمر هذه المذاهب التي فرضت علينا فرضاً، وفي حل من ذلك الحظر على الاجتهاد في أحكام ديننا، لأنه أتى بطريق القهر، ولم يتم برضا المسلمين