سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري ولي بمصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة ٦٦٥هـ حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعري، وعملت لأهلها المدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها وأنكر عليه؛ ولم يول قاض، ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدم للخطابة والإمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلداً لأحد هذه المذاهب. وأفتى فقهاء هذه الأمصار بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم)
وإذا لم يكف هذا الإجمال في بيان ما أتت به يد السياسة من وسائل القهر والإغراء في إحياء بعض هذه المذاهب وإماتة بعضها، ومحاربة الاجتهاد إلى حد القضاء عليه في تلك المدارس، فأنّا نسوق مثلاً من ذلك في المدرسة المستنصرية التي أمر بانشائها، المستنصر بالله العباسي، وشرع في ذلك سنة ٦٢٥هـ وقد تكامل بناؤها سنة ٦٣١هـ وأنفق عليها أموالاً كثيرة، واحتفل بافتتاحها في تلك السنة احتفالاً عظيماً حضره بنفسه، وحضره نائب الوزارة وسائر الولاة والحجاب والقضاة والمدرسون والفقهاء ومشايخ الربط والصوفية والوعاظ والقراء والشعراء وجماعة من أعيان التجار الغرباء، واختير لكل مذهب من المدارس وغيرها اثنان وستون نفساً، ورتب لها مدرسان ونائبا تدريس؛ وكان المدرسان محي الدين محمد بن يحي بن فضلان الشافعي، ورشيد الدين عمر بن محمد الفرغاني الحنفي؛ وكان نائباهما جمال الدين عبد الرحمن بن يوسف بن الجوزي الحنبلي، وأبا الحسن علياً المغربي؛ وجعل لها معيدون لكل مذهب أربعة، وقسمت إلى أرباع، فجعل ربع القبلة الأيمن للشافعية، وجعل ربع القبلة الأيسر للحنفية، وجعل الربع الذي على يمين الداخل للحنابلة، وجعل الربع الذي على يساره للمالكية. وقد شرط المستنصر في وقفه عليها أن يكون عدة فقهائها ثمانية وأربعين ومائتي فقيه، من كل طائفة اثنان وستون، بالمشاهرة الوافرة، والجراية الدارة، واللحم الراتب، إلى غير ذلك من وسائل الإغراء التي لم تتح لغير هذه المذاهب. وقد كان قبر الاجتهاد في هذه المدرسة، وحجر النظر فيها على العلماء بهذا الشكل.
في سنة ٦٤٥هـ أحضر مدرسوها إلى دار الوزير، فتقدم إليهم ألا يذكروا شيئا من