وفائدة. فإذا كنا تكلمنا عن نظام العدول في معرض الكلام على نظام القضاء في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين، وقلنا إن سنة التقدم والارتقاء دعت إلى اتخاذ الشهود المحلفين حين فشت شهادة الزور، فقضى النظام الجديد بتعيين شهود عدول عرفوا بحسن السمعة والفقه فصاروا من هيئة المحكمة يعمل برأيهم القاضي فيما له علاقة بالمتقاضين، إذا ذكرنا هذا فليس معناه أننا نجهل تاريخ هذا النظام ونجهل أنه كان في الدولة العباسة لا الأموية. والمنصف يرى أن مثل هذا الاستطراد له شواهد كثيرة من كتاب الله وكلام رسوله وكلام العرب. وقد لاحظ العلماء فيه أنه يكسب الكلام رونقاً وجدة ويذهب بالسآمة التي يشعر بها القارئ أحياناً من موضوع استطال الكلام فيه.
يخيل إلينا أن الناقد أحس بتهافت ملحوظته هذه فعمد إلى ستر الموقف وتدعيم المأخذ بكلام أرسله إرسالا وكال فيه التهم جزافا، فأبرم حكما مقضياً بأن كلامنا لا يجلو هذا النظام على حقيقته وفيه تخليط كثير!! ويا للعجب! هو لم يقبل منا أن نستطرد بذكر نظام العدول موجزين ويريدنا أن نفصل الكلام عنه. ولا بأس أن تترك الكلام عن موضوع الكتاب بالمرة لنفسح له في الميدان ليصول ويجول ويكون لنقده حينئذ بعض القوة!
ص٦٢٧ - كنا نتفكه بحكاية ذلك التركي الذي كان مغرماً بأن يأمر فيجد مأموراً، وينهي فيجد منهياً، ولما كانت مؤهلاته لم تسعفه بإشباع رغبته اقتعد غارب الطريق ووضع أمامه بعض أباريق مملوءة بالماء، حتى إذا ما أجهد أحد المارين العطش وأراد تناول إحداها ليشرب نهره ذلك التركي قائلا: دع هذا واشرب من ذاك! فإذا ذهب حضرة الناقد في غالب كلامه يلومنا بأننا نقلنا كذا عن فلان، وكان أولى بنا أن ننقله عن سواه، فانه - ولا شك - يذكرنا بهذه الحكاية المضحكة. ولقد رأينا حضرة الناقد يسلك هذا الطريق معنا في أمر موقعة ذات السواري ونفقات المسجد الأموي.
وبعد، فمن شيم العلماء وكرام النقاد ألا يلجئوا إلى التمويه والإيهام عما ينقدون ويمحصون، وإنما عملهم هو قرن الدعوة بالدليل، ووضع الصحيح إزاء العليل، وبذلك يخدم العلم، وتشكر الحقيقة مجليها. أما إذا لجأ الناقد إلى التعميم، وعبارات التفخيم، واعتذر عن الإدلاء بالحجج والبينات بقصر الوقت وبكثرة السيئات، فليس معنى هذا في نظر الناس إلا الرغبة في الهدم، وعدم القدرة على البناء.