للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أحالوها عنكبوتاً ضخماً ينسج الوجود من خيوطه. فكان منه (المثل الأعلى) والعقل الخالص، والواحد المطلق، والشيء القائم بذاته؛ على أن هذا الشيء القائم بذاته، وهذا العالم الحقيقي إن هما - إذا تجردا - إلا العدم الخالص.

إن إله المسيحيين - كما يراه نيتشه - هو إله كل ما يتألم، وكل ما يجنح إلى الموت؛ وهو بدلا من أن يبشر كالآلهة الوثنية بما يفيض على الحياة من بهجة ونعيم، ويبث الإرادة القوية التي تقول للحياة: (بلى)، ولكن ما تحمله (بلى)؛ نراه يحمل الناظر إلى كل منحط خسيس في فؤاد الإنسان، يكره الحياة الحقيقية ولا يحمل لها إلا مقتاً؛ ويجعل رجاءه في حياة وهمية ثانية. إن عالم النظريين يماثل في حقيقته هذا العالم المسيحي. أنه كلمة فارغة من كل حقيقة؛ إن الإله هو علامة (سلب الحياة)، وإله الفلاسفة هو العدم الخالص.

وتلك الإرادة التي تمثل هذا الإله إن هي إلا الجنوح إلى الفناء. وإن أبرز هؤلاء الفلاسفة الذين يعتقدون بأنهم مارقون من كل دين وكل إيمان هم في الحقيقة رجال إيمان لا يتزعزع. إن هؤلاء العلماء والفلاسفة اللابسين أثواباً مختلفة إنما لباسهم لباس واحد يلفهم ويضم بينهم، هو لباس الزهد.

لنحلل معتقدهم: أن إرادة إدراك الحقيقة مهما كان ثمنها - تتهيأ في طريقين مختلفين: تقول (لا أريد أن أخدع!) أو تقول (لا أريد أن أخدع نفسي ولا أخدع أحد) أما القول الأول فهو بعيد عن الحقيقة، لأن الإنسان ليقدر على أن يسمو إلى الحقيقة بفطنة منه أو خشية إذا كان يثق في نفع هذه الحقيقة السامي إليها. ولكن الحقيقة هي أنه إذا كانت هنالك حقيقة بدأت تنجلي شيئاً فشيئاً للعقول المستنيرة فهي أن الوهم ذو فائدة للوجود وضروري له كالحقيقة. وفي اعتقاد نيشته أن الوهم والكذب هما من الجواهر اللازمة للحياة.

إن مسألتنا التي نبتغي حلها ليست بجملة اعتراضات، ولا فوز في المنطق، وإنما مسألتنا هذه: (ما هو الأجدى نفعاً لحفظ الحياة وصيانة النوع ووقاية الحيوان؟) وأنّا لنستطيع أن نقول بدون تردد: أن الأفكار والأحكام الأكثر بعدا عن الحقيقة هي عندنا من الأشياء التي لا منصرف عنها: ولو أن البشرية استغنت عنها لما استطاعت الحياة، إذا كان الجحود جحوداً بالحياة نفسها وإعداماً لها.

ولكن لو فرضنا أن الكذب أكثر يمناً والحقيقة أكثر شؤماً، فأن رجل العلم لا يجنح - إذ ذاك

<<  <  ج:
ص:  >  >>