للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

- إلى الحقيقة طمعاً في فائدة أو رهبة من شئ، وإنما يجنح إليها ويتواقع عليها لأنه نشأ على ألا يخدع نفسه ولا غيره مهما كلفه ذلك. تراه يضحي بسعادته وبالبشرية في سبيل الحقيقة، هذه الحقيقة المقدسة التي راح يسميها المسيحي إلهاً.

ومما لا ريب فيه أن ناشد الحقيقة يضع إيمانه في وجود غير هذا الوجود، وحياة غير هذه الحياة. فماذا تراه يضع في وجودنا هذا بعد انصرافه عنه؟ هل يجد غير الجحود به؟ ولكن رويداً! أريد أن أقول: إن اعتقادنا العلمي مبني على اعتقادنا النظري. وإننا نحن مفكري اليوم، الجاحدين الناكرين نستمد النار التي تحرضنا وتثيرنا من المجمرة التي أضرمتها نار العقائد كثيراً، ومن ذلك الإيمان المسيحي الذي شابه الإيمان الأفلاطوني القائل بأن الله هو الحقيقة وأن الحقيقة هي ألهيته.

إن رسول الجيل الحاضر لم يجرؤ على أن يشك في القيم الحالية الموروثة، لم يجرؤ على القول: ما هي قيمة الحقيقة وما هي قيمة ذلك الأمر المطلق للفضيلة التي تأمرنا بسلوك طريق الحقيقة؟ إنه وقف مكتوف اليدين إزاء مسألة الحقيقة والفضيلة. إنه لم يقل لماذا وجب على الإنسان أن يعرف كنه هذه الطبيعة التي نحسها اليوم كقوة عمياء، غير عاقلة لا تعبأ بالخير ولا بالشر، فيها قوة الخصب والتوليد؛ تنجب دائماً مخلوقات جديدة لتضحي بها لغايات لا معنى لها، ولا عاطفة في صدرها. . . . وإذا كانت هذه حالتها فلماذا كتب الإنسان على نفسه التضحية بها في سبيل مثل هذه الألوهية؟

يرى نيتشه أن الرغبة في الحقيقة مثلها مثل الصبغة العصرية لصرامة التنسك والزهد التي دفعت الإنسان إلى أن يضحي - في سبيل إلهه - بكل ما تملك يداه، فكان الإنسان يقرب له الضحايا البشرية، يضحي بأول غلام يأتيه، حتى إذا جاء العهد المسيحي أصبح الزاهد يضحي للإله بكل غرائزه وميوله الطبيعية.

والآن ماذا يملك عليه ليضحي به؟ ألم ينته دور التضحية له بكل عزيز؟ أليس الأجدر الآن تضحية الإله نفسه؟ وعبادة الحجر والمبهم والثقل والحظ والعدم إمعاناً في مجافاته؟ وهكذا تجد رسول المعرفة الذي لم يهو في مهواة الشك، المؤمن بالحقيقة، الجريء على خلق مثل أعلى، الشديد إيمانه بالعقل السامي والفضيلة، تجده إذا نزعت رداءه - زاهداً ينكر الوجود، ومتشائماً يفر من الحياة، لأنه يأبى أن يستسلم إلى الوهم، إلى الكذب اللازم للحياة، انه

<<  <  ج:
ص:  >  >>