البخاري. وإننا بدورنا نبادر ونطلب من الناقد أن يستغفر من ذنبه، فان إمام المحدثين البخاري هو الذي روى ذلك الحديث الذي جرى بين أبي سفيان وبين هرقل قيصر الروم في الشام (راجع باب بدء الوحي في البخاري)؛ كما أن هذا الحديث، وقد أجمع على صحته المحدثون، لم يحمل في ثناياه أدلة ضعفه وانتحاله - كما يقول الناقد - وأنه ذو خطر عظيم؛ فأنه يوضح بأجلى بيان كيف كان المشركون وعظماء قريش ينظرون إلى الرسول قبل إسلامه، وكيف كانوا يعرفون صدقه وأمانته كما يعرفون آبائهم وأبنائهم. وكيف لا يقدم هذا الحديث الصحيح في فهم سيرة الرسول ولا يؤخر؟ وقد كان أيضاً سبباً مباشراً فيما عرضه هرقل على بطارقته من الإسلام لولا أن حاصوا حيصة حُمر الوحش إلى الأبواب (راجع هذا الباب في البخاري)
أما أننا لم نقصد إلى مناقشة هذه النصوص التي وردت في شرح البخاري ومقارنة رواياتها المختلفة بعضها عن بعض، وأننا لم نبين ما اتفقت فيه وما اختلفت من حيث اللفظ والمعنى الخ، فان هذا ليس بذي خطر؛ فضلاً عن أنه يخرج بنا عن المقام. ومالا يترك كله
ولعل من الغرابة أن يجعل الناقد من أسباب الخطر على مقدرتنا في نقد المراجع وتقويمها أننا وافقنا على نسبة كتاب (فتوح الشام) للواقدي، وأننا استعنا به في الفصل الذي عقدناه لفتح العرب الشام، ثم أنبرينا لمناقشته ومجادلته، وأننا كذلك اعتمدنا في عدة مواضع على كتاب (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة. ويقول الناقد إن الكتاب ليس للواقدي، وان كل شئ في الكتاب الثاني يدل على أنه ليس لابن قتيبة، وإنما هو لكاتب أندلسي.
أما إن نسبة هذين الكتابين لهذين المؤرخين أو غيرهما فلا يقدم ولا يؤخر في الموضوع، - على كل حال - يوضحان الحياة العامة السياسية في العصور التي تناولناها في كتابنا. وقد تضافرت المصادر الأخرى على صحة القدر الغالب مما ورد فيهما. على أن مجرد إنكار نسبة الكتابين للواقدي وابن قتيبة لا يكفي، بل يدعو إلى الابتسام، اللهم إلا إذا اعتمد المنكر على غير (غالب الظن)، و (الاعتماد على بعض ما كتبه الإفرنج)، مما لا يعتد به المنطق التاريخي ولا يدعمه دليل مبين. وإذا كان الظن في كل المسائل لا يعني من الحق شيئاً، ففي المسائل التاريخية خصوصاً يكون أبعد من الحق منالا وأدنى للباطل مجالا.