للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نفوسهم ويلحون به عليها ليكونوا أقدر على الدجل، والدجال يحتاج إلى اكتساب (مظهر) الإخلاص ليستطيع إقناع الناس. وقد رأيت في زمني دجالين كثيرين كان أبرز صفاتهم قدرتهم على مغالطة أنفسهم بالإيحاء إليها؛ والشعراء أبرعهم جميعاً لأنهم ألح على نفوسهم، وأكثر استلهاماً منها، وسبباً للتأثير فيها، ودؤوباً على مناجاتها

أعود إلى هذا الحب فأقول إنه ليس فيه سر، فهو ضرب من الجوع، أو هو إذا شئت نوع من التنبيه تلجأ إليه الطبيعة لتغرينا بما يكفل المحافظة على النوع كما تنبهنا بالجوع، فنبغي ما نحافظ به على ذواتنا. وعلى ذكر الجوع أقول إني أذكر أني أيام كنت أقول الشعر نظمت قصيدة نشرت في الجزء الأول من ديواني وفيها أن الحب أصاب مني (شبعه) فاستبشعها صديق لي أكبر رأيه وذوقه، وأنكر عليّ أن أذكر (الشبع) في معرض كلام على الحب، فوافقته على رأيه، ولكني تركت البيت على حاله، عجزاً عن تنقيحه، أو إهمالاً؛ ولولا أني أرفض شعري كله لقلت إني الآن أراني أحسنت

فالحب - كالجوع - اشتهاء، أي إيذان بأن الجسم يطلب أن تسد له حاجة، وليس الطعام هو الغاية من الأكل، بل ما يفيده من الصحة والقوة واستمرار الحياة؛ كذلك ليست المرأة هي الغاية من الحب، بل ما تعين عليه من بقاء النوع بالإنتاج؛ وكما أن المرء يغلط فيأكل ما لا خير فيه ولا صحة تستفاد منه ولا قوة، بل ما لعله يضر ويورث المرض، كذلك يغلط الإنسان فيحب ما لا يحقق الغاية التي ترمي إليها الطبيعة. والمرء يكون مترفاً في حبه كما يكون مترفاً في طعامه وملبسه وما إلى ذلك؛ ومن الناس من يأكل طعامه جرفاً، والمبطان الذي لا ينتهي منه، والمخلّط من صنوفه والمستقصي لها، والقَرون الذي يأكل لقمتين، والذي يكره معدته على الزيادة بعد الشبع، والذي يسرع في الأكل كراهة لطول الجلوس له، والذي يضع يده على ما أمامه لئلا يتناوله الغير، والذي يجيل اللقم ولا يمضغها، والذي يلوك، والذي يأكل نصف اللقمة ويرد نصفها، والزهيد القليل الأكل، والمريض، والضعيف الاشتهاء، والمتعجّف. وكذلك أرى الناس يكونون في حبهم، بل الإنسان الواحد يكون مرة هكذا، ومرة هكذا؛ والتوابل وما إليها لازمة للحب أحياناً لزومها للطعام؛ واللحم هو هو كيفما طبخته، ولكنه تارة يكون أشهى مشوياً، وتارة أخرى يكون ألذ وهو مسلوق، أو مقدد أو مشرح أو معلق في السفود، أو مخلوط بالرز أو البيض أو الخضر أو غير ذلك؛ وقل

<<  <  ج:
ص:  >  >>