وجدفت وتشككت أحياناً. . ولعلي لمت نفسي لأني أحببت ألوان الجمال جميعاً، فما تغذيت بلون منها، ولا شبعت بها جميعاً. . .
لعلي لم ألم نفسي. . .
اقتربت الأقدام مني، فإذا بشبح أسود يمر سريعاً دون أن أراه. . ولكني أفيق فأتبين في الشبح فتاة تلبس الرداء الأسود الحزين وفي يدهاطاقة ورد، وعلى وجهها مسحة ألم، وهي في مشيتها لا تلقي بالاً لما حولها
هذه الفتاة ليست إلا قصة حزن من قصص الحزن التي سجلها الحفار تمثالاً، والتي سجلها الزمن أجساداً تسير في الدنيا بلا أرواح، مشغولة بالذين راحوا، ولا عودة لهم بعد الرواح. .
تبعتها، ولم أر بعد وجهها، وقد أحسست أن نصف حزنها قد خف ولطف، فقد قاسمتها الهم الذي تنوء من تحته، والألم الذي تشكو من وخزه، والحرمان الذي تبكي لطوله وعنفه. لقد بدت لي هذه الفتاة في ثوبها الأسود، ووشاحها المسدل، وإطراقتها الطويلة، الإنسانية التي تنبعث آلامها من آمالها، فقد تكون هذه الفتاة قد أقبلت لتضع على قبر حبيبها طاقة زهر، أو تنثر فوقه دموع عينيها، وقد كانت بالأمس تمني نفسها أن تكون له ويكون لها. . .
انطلقت الفتاة وكأنها تعدو؛ واخترقت الدهاليز، واجتازت الأبهاء؛ وبعدت عن صحبي، ولعلي بعدت عن نفسي، وخيل إليّ أن الفتاة لا تقصد قبراً، وأن القبور تساوت أمامها فكلها من الحجر الغالي، وكلها منقوش ومصور، وكلها أصم أبكم، بارد جامد لا يلين تحت يد، ولا يلتهب لوقع قبلات المحزونين المكروبين.
أتقودني هذه الفتاة إلى مجهول، أم أن دنيا الأحزان هكذا متسعة، والطريق إليها يطول ويطول. . .؟ ولكن الفتاة لم تلبث أن انحرفت إلى دهليز ضيق، ثم خطت خطوتين، وركعت أمام قبر من الرخام الأسود، ورسمت الصليب، وأغمضت عينيها. . . كان النور ضعيفاً، باهتاً، وكان المكان ساكناً ساكتاً، فابتعدت عنها خطوتين ووقفت أتأملها، ولكن الشمس لم تلبث أن خطت في السماء خطوتين، ثم سقط نورها من نافذة من الزجاج زرقاء، فرأيت هذه الفتاة تمثالاً افتنت فيه يد صانع الطبيعة، فاجتمع فيه ألف معنى، فلو سألتني أهذه الفتاة طفلة تتشبث بصدر أمها، ولم تتجاوز بعد الأعوام الأولى من عمرها، لقلت