للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

(نعم!). ثم لو عدت وسألتني: أهذه الفتاة صبية لاهية تائهة في الدنيا ساهية، لقلت (نعم!). ثم لو رجعت إلى السؤال فقلت: أهذه الفتاة شابة اكتملت أنوثتها، ونضجت فتنتها، لقلت (نعم!) ثم لو ألححت في السؤال فقلت: أهذه الفتاة امرأة أثارت الدنيا شهواتها، ولم تضعف الأيام نزواتها، لقلت (نعم!). ثم لو كان بعد ذلك في مكنتك أن تسأل فقلت: أهذه عجوز شيبت السنون رأسها، وهدت البأساء نفسها، لقلت (نعم!). لقد أطلت النظر إلى وجهها، فرأيت الرجاء والتوسل، والبكاء والتهدم، والاطمئنان والاستسلام، والثورة الجائحة، والشك في رحمة الرحمن. . .

لمست القبر وقبلته، واقتربت منه وعانقته، وأسلمت رأسها وقد انسدل وشاحها على ظهرها، وبدا لي أنها شرقى تطلب ماء لغصة في حلقها، ولكنها رنت إلى السماء بوجهها، فرأيت أنها تطلب من الله ماء العيون. . فلقد تحجرت عيناها فلا بكاء ولا دموع. . .!

انتصبت الفتاة واقفة، ثم رفعت من فوق القبر قنديلاً صغيراً كادت تخبو شمعته إذ أوشك زيته على النفاد، وملأت القنديل بزيت من زجاجة كانت معها فاشتعل القنديل وتوهج، ثم ذهبت إلى الناحية الأخرى من القبر وملأت القنديل الموجود هناك، ثم رفعت طاقة الزهر التي كانت معها فوضعتها على القبر وتمتمت ثم رسمت الصليب وانطلقت وقد زاد وجهها شحوباً، ووقفت حيث كنت متأملاً في نور هذا القنديل، مشفقاً على هذه الإنسانية التي لا تدري كيف تعبر عن حزنها ولا عن ألمها. . . ماذا يفعل هذا النور الخافت في هذا الدهليز الضيق؟ وما الذي يفيده الفقيد الراحل من الزهر المنثور على القبر ومن القنديل ومن تجديد الفتيل. . . إنه ذهب ولن يعود. . . ولكن الحياة لا تعترف بأنها فقدت من الموتى كل شئ، فهي تحدثهم بلغة الأنوار والأزهار، وهي تناجيهم بالتماثيل والتهاويل، وهي تسمعهم الأغاني والتراتيل. . . . أهي تفعل ذلك كله من أجل الموتى؟ أو من أجل نفسها؟ أهي تتشبث بالذين ذهبوا أم تتعلق بالدنيا التي تتجدد وتتطور وتزداد كل يوم جمالاً وافتناناً؟. . . وما أقوى الحياة في بدايتها وما أقواها في نهايتها!

لكن هذه الخواطر الغامضة لا تنتهي، لأن كل شيء في المقبرة يفجر في النفس ينابيع التأمل والاستذكار، فلابد لزائر المقبرة من شيء أو شخص ينتزعه من هواجس نفسه وخواطرها. وقد كان الذي انتزعني دليلاً من إدلاء المقبرة، تقدم إليّ وعلى عينيه مناظر

<<  <  ج:
ص:  >  >>