لامعة، وسألني كم من الوقت أريد أن أقضي في المقبرة. قلت لأصرفه عني:(دقائق قليلة)؛ فقال حسناً. اتبعني. فتبعته وأنا أسائل نفسي ماذا يستطيع أن يقول هذا الدليل وقد تكلمت التماثيل والأحجار، ونطقت القبور والأنوار، وسالت الفجيعة من كل ركن من أركان المقبرة؟ ولكنه قادني إلى تمثال أنيق لراهب وانطلق يذكر صانع التمثال وشهرته، وتاريخه وبدائعه، فأحسست أن الجو الشعري الذي اشتملني قد تبدد أرجه وعطره، وشعرت أنني خرجت إلى دنيا التوافه. . . دنيا الأرقام والإحصاء، الدنيا التي لا ترى فيها إلا مكافحاً في سبيل الرزق، أو مدجلاً من أجل الشهرة، أو مغلوباً على أمره، يبغي البقاء ويخشى أن يدهمه الفناء. . .
قل أيها الدليل كل الذي في جعبتك فإنك لا تهوى الفن ولا تعشقه، وليست هذه التماثيل في حسابك إلا بقدر ما تدخل الجثة المسجاة في سرير في حساب (النادبة) التي تؤجج نيران الأسى في قلوب ذوي الفقيد وهي لا تحس ألماً، بل تنتظر لعويلها ثمناً. مرّ بي على تمثال الجندي الشاب الذي صرع في ميدان القتال فأقامت له أمه نصباً خلدت به ابنها، فأبرز المثال صورته، وقد أصابته الرصاصة في صدره، فوضع يده حيث اخترقته القذيفة ووقفت أمه من ورائه تحنو عليه. . .
مر بي أيها الدليل على تمثال الفتاة التي زفت إلى خطيبها، فماتت في شهر عسلها؛ وعلى تمثال الغواص الذي هبط إلى أعماق البحر ولم يخرج. . .
مر بي أيها الدليل في الدهاليز. . . وأشر بإصبعك إلى القطع البارعة التي أحرقت أعصاب أصحاب الفن قبل أن تبرز إلى الوجود. . . لخص أيها الدليل أجمل معاني الدنيا في عباراتك الباهتة وقل هنا (قبور الأغنياء)، وهنا قبور القرن الماضي، وهنا قبور المتوسطين من الناس. . . كأني جئت هنا لأضع الموتى في مراتبهم الاجتماعية، ولأسأل عن وظائفهم ومقادير ثرواتهم وما حصلوا من مجد، وما لاقوا من عنت. . . قف أيها الدليل أمام أجمل فتنة فنية؛ ثم لا تدعني أتأملها لأنك تحسب أنك قلت لي عنها كل شيء إذ تقول إنها تكلفت أموالاً كثيرة. . .
ولتدخل بي أيها الدليل إلى دهليز طويل، لأرى في جداريه أدراجاً فأحسب أنها أدراج مكتبة وقفها بعض ذوي الثراء على الراغبين في العلم الباحثين عن المعرفة حتى في