للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بؤس الناس وشقائهم. وهنالك السائل الذي مقت الإنسان المتمدن، يتحرى إزاء قطعان البقر السارحة في المروج، يتحرى عن السعادة. وهنالك الشكوكي الذي قذف به جموح عقله إلى إضاعة نفسه، فضل وغوى وانطلق - بدون أمل - يسبح في أرجاء الوجود. كل هؤلاء يئنون من داء عميق يحز في قلوبهم حزاً. فهم يطوفون في الآفاق وقد أخذ القلق منهم كل مأخذ. فالناس وكل ما يؤمن به الناس من السعادة لا يزيدهم إلا سأماً. فهم أمسوا ولا إيمان لهم بكل الرموز التي يقدس الشعب ألفاظها ومعانيها. فلا ما وصلت إليه المادة بمغنيهم نفعاً، ولا الإيمان بالمثل الأعلى يغمر قلوبهم، فماذا يجب على الإنسانية إذاً أمام هذه الهاوية؟ فهل تقف مشيها وتطلب نفي الحياة وتنشد العدمية؟

يجيب نيتشه: لا! لأن الانحطاط لا يؤول إلى العدم، بل قد يكون الانحطاط بشائر حياة جديدة وعافية قوية، وإن مما لا ريب فيه أنه لا يمكن الرجوع بالإنسانية إلى الوراء. (يجب الإقدام، الإقدام إلى أمام. . . تقدموا رويداً رويداً في الانحطاط، وكما أن أوراق الأشجار تصفر في الخريف وتتناثر على الحضيض، كذلك الانحطاط قد يكون طليعة سلالة جديدة، والإنسانية تهب باحتضارها حياة سامية، إن الإنسانية تتمخض وتتألم من أوجاع الولادة؛ ولذلك لم يحمل زرادشت تعاسة الرجال السامين إذ يعتقد بأن الإنسان ينبغي له أن يتألم كثيراً ليستطيع الوثوب على القمم العالية. أن شقاء الرجال السامين وسأمهم من الناس ومن أنفسهم ضروريان، ليصرفاهم إلى المواطن العالية وليزيداهم جرأة وإقداماً على الوثوب. وإذا كان هؤلاء الرجال السامون هم بأنفسهم نماذج ناقصة للإنسانية فما همّ ذلك؟ يجب أن يكون هنالك انحطاط ونقص حتى يجيء النموذج كاملاً من كل وجه. إن الإنسان السامي هو كالإناء، يتهيأ فيه مستقبل الإنسانية، وفيه تتألف وتتجاذب وتعمل كل الجذور التي ستظهر يوماً لمعانقة أشعة الشمس، على أن أكثر من إناء واحد ووعاء واحد بين هذه الأوعية سيتصدع وسيتحطم! ولكن ما هم ذلك؟ أإذا ساءت ولادة فرد ما فهل ساءت الإنسانية كلها؟ وإذا ساءت ولادة الإنسانية كلها فما هم ذلك؟ إن الإنسان خاضع لهذا التشبيه الذي فرضه نيتشه. (إن الإنسان هو حبل ممدود بين الحيوان والسوبرمان، ليس الإنسان بغاية، إنما الإنسان مجاز وممر، وليفن الإنسان في سبيل حياة السوبرمان). يقول زرادشت للشعب الحاشد حوله:

<<  <  ج:
ص:  >  >>