ذهب بعيداً جداً في الاعتداد والإرشاد، وعمم بعد تخصيص، وألقاها كلمة داوية بأن التاريخ الإسلامي في الشرق لم ينهض نهضته ولمّا يجد من يقيل عثرته، وأن روح الجماعات وأثر البيئة والتقاليد وعمل المبادئ والعقائد، والقوى الاجتماعية والاقتصادية لا تزال في العربية أسراراً لم ترفع عنها الحجب. فهذا الكاتب يرى أن كل ما ألف أو درس في التاريخ الإسلامي من أصول وفروع وبيئات وتقاليد لغو وباطل، سواء أكان الدارسون شرقيين أو مستشرقين
كان الظن بمن ينقد شيئاً أن يرينا مثلاً أعلى لما ينبغي أن يكون عليه طريق البحث ويدلنا عما صنع هو للاحتذاء والأسوة، فالنفس دائماً مولعة بأن تتبع ذا الفعال، وقلما تفيدها الأقوال (ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتعظيم من معلم الناس ومؤدبهم). ويظهر أن الناقد استشعر هذا الإشكال الجديد، فهو يحاول النجاة بأن الذي يحول دون نمو الروح التاريخي الصحيح في الشرق هو ما يعترض الباحث من وعورة المسلك وبعد الشقة وصعوبة المنال. مرحى مرحى!! كأنه يعتذر عن عدم إخراجه ولو مؤلفاً واحداً بما ذكر، ويتهم كل المؤرخين بأن التاريخ في كتبهم لا يزال قصصاً يقص وسيراً ساذجة تتلى، ويكتب أربع مقالات ينقدنا فيها نقداً لاذعاً، ويدعونا إلى الأخذ من هذا وترك الأخذ من ذاك. وما عهدنا واعظاً حكيماً يهدي إلى طرق لم يسلكها، ويكلف الناس بواجبات لم يتذوقها، أو يثقل عاتق الناس بما عجز عن حمله، أو يسهو عن أن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره. عفا الله عن ابن المقفع، فقد ذكر في ترجمة (كليلة ودمنة) أمثالاً صالحة لمن يغشى حلبة السباق وهو مقعد، أو يتولى سدة الوعظ وهو محتاج إلى الرشد
وبعد فما كان أغنى قراء (الرسالة) عن هذا كله، وما كان حق النقاد ألا يشرعوا قلمهم إلا لله والمصلحة العامة، لا تنزو بهم نازية من خوف أو طمع. ولكن هكذا قدر (ولو شاء ربك ما فعلوه)
ولقد رأى حضرات القراء أن هذه الزوبعة التي هول في أمرها وأطال بذكرها لم تكن بذات خطر تمد له في تجريحه مداً. ولله الحمد قد آن لنا بعد أن حصحص الحق أن نمسك القلم شاكرين (للرسالة) والقراء، معتذرين - بدورنا - عما عسى أن يكون يدر به القلم - فالبادئ أظلم. ومن لا يغار على الحق وكرامته يتهم في رجولته. (فأما الزبد فيذهب جفاء،