وتخلق من الواقع محالاً. إن غزوة بدر ومقدماتها ظفرا وحدهما من صفحات الكتاب بنحو ثلاث عشرة صفحة (صفحة ١٣٦ - ١٤٨)، وإلا فهل كان الناقد يظن الكلام في الجهاد وأسبابه، والغنائم وشرعيتها، وهل الدعاية إلى الدين كانت من طريق السلام أو الحسام - كل هذا يظنه بمنأى عن غزوة بدر ولا يتعلق بها، وأننا لم نفصل الكلام على هذه المواضيع بمناسبة تخالف تلك الغزوة الخالدة؟ وهل كان يريد أن نستبدل هذه الأحداث الهامة بذكر ما قيل في رثاء قتلى المشركين، وما تقدمت به قتيلة تعاتب الرسول لقتل أخيها النضر، وما وقع في قتل أبي جهل مما تختص به كتب السير؟ أما إن الأحداث الجسام التي وقعت زمن يزيد بن الوليد ركزت وضغطت في أسطر قلائل فدعوى غريبة، يكفي لوأدها صفحات الكتاب من ٥٢٣ إلى ٥٥٠، وفيها أسباب سقوط الدولة الأموية، والتعرض بالتفصيل لهذه الأحداث الجسام التي وقعت أيام يزيد وغيره
إنما اللوم على من يحسبها ... ظلمة من بعد ما يبصرها
في الأمثال (لا يشكر الله من لا يشكر المحسن من الناس) وإذا كنا في كلمتنا السابقة أخذنا على بعض المستشرقين أنهم أحياناً ينظرون إلى تاريخ الإسلام من خلال مذاهبهم الدينية، لا أبحاثهم التاريخية، فإننا لا نكتمهم حق الشكر على إنهم عاونوا في رفع الحجب التي أسدلتها العصور المظلمة على تاريخنا، وسلوكه في سلسلة تصل أوله بآخره، وتمد القابض عليها السائر حذاءها بما يمكنه من إدراك ما فيه من قوة وضعف واعتلاء وابتلاء. هذا ما كتبه فون كريمر، وبروان، وكرهل، والسير توماس أرنولد، وأميل درْ منجم وغيرهم، يدل على توفيق كبير في استخراج الوقائع والعبر التاريخية واضحة جلية بعد أن اختلطت أحداثها وتعددت نظمها وآراؤها، وبعد أن كان التاريخ سيراً يتفكه بها الخالون ويحتقرها العالمون، صار بفضل تلك الأبحاث العلمية الحديثة فناً كريماً تقرن فيه الموقعة بالموعظة، وتلحق فيه البينات والشواهد آثار رجالاته وبيئاته، حتى غدت منابعه عذبة للواردين وطرقه معبدة للمدلجين. فليس من الأصناف ما ذهب إليه الناقد من أن التاريخ الإسلامي لم ينهض بعد في الشرق نهضته المستقلة المنشودة، وأنه لا يزال قصصاً يقص وسيراً ساذجة تتلى. أجل! كان من حسن الحظ - أو من سوئه - أن الناقد بعد أن نعى علينا ما نعى، وبعد أن ملأ مقالاته الأربع بما يستر هب بعض الألباب حتى ظنته إمام هذه الصناعة،