وهاهو ذا إلى اليوم ماثل في صفحاتها، يشهد باندفاع بستور وتسرعه، ويكذب من يقول أن بستور لا يقول دائماً إلا حقاً. ولقد بحثت ما استطعت فلم أجد أن بستور أسترد الذي قال، ونفى الأمل الخادع الذي أحيا في الناس. وبستور لم يطل به الزمن بعد ذلك طويلاً حتى عرف خطل هذا الرأي، واستيقن من أن النوع الواحد من البشلات لا يحصن من كل الأمراض على نحو ما كان أدعى، وإنما يحصن من المرض الواحد الذي هو سببه، وحتى هذا قد لا يدفعه أحياناً.
ولكن كان من خصائص بستور المحمودة أنه كان كلما انهدم له أمل، قام على أنقاضه له أمل جديد؛ وإذا احترق له رجاء، انبعث له من رماده رجاء طريف. يحدق به الخيال الوثاب حتى يصل به إلى السحاب، ثم يخونه جناحاه، فيهوى كالقنبلة على الأرض، فتحسب هذا الدوي هو آخر ما تسمع منه، ثم لا تلبث أن تراه قائماً من تلك الأنقاض على رجليه، يجري التجارب البارعة، ويبحث بجد عن كل حقيقة صلبة صماء. لذلك لا تستغرب أن تسمع انه في عام ١٨٨١ كان يعمل مع عونيه رو وشمبرلاند ليكشف عن طريقة جميلة لتأنيس مكروب الجمرة وتحضير لقاح منه. فبمجيء هذا العام اشتد البحث وراء الألقحة اشتداداً لم يدع لرو وصاحبه وقتاً لراحة. حتى الآحاد اشتغلاها، وأيام العطلة لم يتعطلاها، والإجازات تجنباها، وناما في المعمل إلى جانب الأنابيب والمجاهر والمكروبات. وهنا، وبإرشاد بستور، أضعافا بشلة داء الجمرة إضعافاً متدرجاً. فمن الضعيف ما قتل الخنازير الغينية وأبقى على الأرانب، ومن الضعف ما قتل الفئران وأبقى على الخنازير الغينية. وحقنا الميكروب الأضعف في الخراف، وأتبعاه بالأقل ضعفاً، فمرضت الخراف ولكنها شفيت، وبعد ذلك صمدت على ما يظهر لمكروب الجمرة القوي الذي يقتل الأبقار.
وما لبث بستور أن أذاع نصره الجديد في أكاديمية العلوم - وكان قد ترك أكاديمية الطب بعد عراكه الذي كان مع الدكتور جيران - وبشر لهم بلقاحات يرجو استحداثها قريباً تمحو كل الأدواء، من النكاف إلى الملريا. وصاح فيهم:(وهل أيسر من لقاح الجمرة هذا! سموم تضعف بالتدريج من شِرتها فتعطى الخراف والأبقار والخيول بعض الداء دون أن تقتلها، ثم تتعافى، فتعفى من الداء أبداً!) وظن بعض زملاء بستور أنه يبالغ في يقينه، ويغلو في