للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والخيبة، والشكوك والريب، والاستسلام والخمود؟ هل كنت أعزف عن الدير ومساجينه، والزهد وقتلاه، وأطمئن إلى سكن المدن حيث الزلفى إلى الأغنياء، والسلطان على الفقراء، والراحة للجسد، والشبع للمعد؟

هل تراني كنت أنطوي مع من انطوى قبلي من الأغنياء، أو أتمرد وأأتمر فأصل ذروة العرش فأحمل صولجان، وألبس تاج أتدثر طيالسة القياصرة، وأترك الصليب الثقيل للمتجردين، وأرغم الضعفاء على طاعتي باسم الصليب المقدس؟

صمت قليلاً وكان صديقي يصغي إلي، تجرعت جرعة من الشراب هدأت بها نفسي مما ساورها وباعدت بها عني حمم التصورات والتخيلات وقد ازدحمت في الذهن وأخذت تتدفق كسوائل صهرها البركان لتصل إلى العقل الذي يوازن ويقارن ويفاضل وإذا بي أسالها من جديد أسئلة عالجها لويجي بيرانديللو من قبل، وهي:

(أية سيادة لنا على عواطفنا وأفكارنا وإرادتنا وشخصياتنا؟ ألسنا كلنا خاضعين لضروب التأثيرات النفسية والجسدية وأن ليس لنا وجود شخصي معين؟ ألسنا وجدنا لنكون تبعاً لأعمال الآخرين؟ ألسنا نلعب الدور الذي يفرضه علينا مجتمعنا وبيئتنا وضعتنا، وأننا ننتهي إلى حيث لا نعرف أين نحن، وأننا لا ندري ما إذا كانت شخصيتنا الحقيقية هي التي نحلم بها، وهي التي نحياها، أو هي التي تتظاهر بها أمام الناس)

أسمع يا صاحبي وأصغي إلي، أن إنساناً واحداً في هذا الوجود له السيادة المطلقة على الفكر والعاطفة والإرادة الشخصية، وأنه وحده غير الخاضع لتأثيرات النفس على الجسد، هو وحده المتمرد على البيئة والمجتمع والعرف والقانون، هو الفريد في هذا الوجود، له وجود شخصي معين يعرف البداية كما يعرف النهاية هو صاحب الرسالة، الرسالة التي يضعها الإنسان لأخيه الإنسان، رسالة غير منزلة على القلب، ولا مكتوبة على الحجر، ولا مبعوث بها مع رسول، إنما هي أناة المجاميع، وتوجعات العبيد، وعويل الإجراء، يصورها بالقلم ضمير إنسان مثلي ومثلك يشعر بالأنين والوجع والعويل أكثر مما يشعر بها أولئك الصادرة عنهم أنفسهم، ويحس بالظلم والجبروت والطغيان والقهر الصادرة عن أفراد أشرار يعبثون بالمجاميع، يلهون ويلغون في جسومهم وأبدانهم ودمائهم كما لو أنها نازلة فيه ومنصبة عليه، هذا الإنسان من القلائل الذين يحملون رسالة مساواة الإنسان بأخيه، هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>