الناحية العلمية لا يقل قيمة عن التأليف، فالعالم كما يعد من مفاخره أنه ألف كتاباً، يعد من مفاخره كذلك انه نشر كتاباً؛ وكما لا يضن بجهده ووقته فيما ألف، لا يضن بهما فيما ينشر. ومن الأوليات عندهم أن يجمعوا كل النسخ من الكتاب الذي يريدون نشره من مكاتب العالم ما استطاعوا، ويصرفوا الزمن الطويل في مقابلة بعضها ببعض والتعليق عليها وضبط أعلامها وغريها، ولا يألوا جهداً في إيضاح الغامض وتبيين الشكل، ووضع الفهارس للأعلام والبلدان وما إلى ذلك. فلا عجب أن يصرف الأستاذ (ريت) عشر سنوات في تصحيح كتاب الكامل للمبرد ونشره لأول مرة؛ وفضله وجده ظاهران في الطبعات المصرية التي نشرت بعد، حتى سهل على العالم أن يدفع الثمن الغالي لكتاب طبع طبعة أوربية ولا يدفع الثمن البخس في طبعة له مصرية. أن شئت فوازن بين كتاب الشعر والشعراء لأبن قتيبة المطبوع في أوربا والمطبوع في مصر، فهو في مصر ناقص أكثر من نصفه، ومحرف تحريفاً شنيعاً، وهو في أوربا كامل مضبوط صحيح بقدر الإمكان.
ومما نغتبط أن نرى من أهل اللغة العربية أنفسهم من حذا حذو المستشرقين في نشر الكتب، بل فاق بعضهم أحياناً، فبذل الجهد في التصحيح والتعليق ومعارضة النسخ وعمل الفهارس، وهذه طليعة حسنة نرجو أن تستمر وترقى. فرأينا مثلاً من ذلك فيما تنشره دار الكتب من كتاب الأغاني ونهاية الأرب وغيرهما، وفيما تنشر لجنة التأليف من كتاب السلوك للمقريزي.
ولعل من أجل الأعمال في هذا الباب ما فعله صديقنا الأستاذ عبد العزيز الميمني في نشر كتاب اللآلئ في شرح أمالي القالي للوزير أبي عبيد البكري، فقد اختار كتاباً للنشر فأحسن الاختيار، لأن كتاب الأمالي عدّ - من قديم - أصلاً من أصول الأدب التي اعتمد عليها الأدباء في العصور المختلفة إلى الآن، وقد كان النواة الأدبية الأولى التي بذرها أبو علي في بلاد الأندلس من علوم المشرق فنمت وأثمرت ونضجت وآتت أكلها كل حين بإذن ربها وقد كانت أماليه المدرسية التي تخرج عليها مشهورو الأداء في الأندلس ولقيت منهم من العناية ما هي جديرة بها. وكان للأمالي طابع خاص غير الطابع الذي غلب على أمثالها من كتب الأدب كالبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد؛ فكتاب البيان والتبيين طابعه مختار من الأدب صبغ بصبغة الجاحظ من ميل للاستطراد الكثير وتحدث في الشؤون الاجتماعية،