للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يشرف بنفسه على هذه المجالس، ويشترك في أعمالها، ويغدق العطاء على روادها. وقد أخذ ابن كلس بقسط حسن في التأليف والكتابة، فوضع كتاباً في القراءات، وكتاباً في الفقه، وكتاباً في آداب رسول الله، وكتاباً في علم الأبدان والصحة، ومختصراً في فقه الشيعة مما سمعه من المعز لدين الله، وهو المعروف بالرسالة الوزيرية. وكان يقرأ كتبه على الناس تارة بالجامع الأزهر وتارة بداره، ويجتمع لديه الكتاب والنحاة والشعراء فيناظرهم ويصلهم؛ وكانت موائده دائماً منصوبة معدة للوافدين؛ وكان كثير الصلات والإحسان، وبالجملة فقد كان هذا الوزير والعالم الأديب مفخرة في جبين عصره، وقد أشاد شعراء العصر بجلاله وجوده، ومن ذلك ما قاله أحدهم حين أصابت الوزير علة في يده:

يد الوزير هي الدنيا فان ألمت ... رأيت في كل شيء ذلك الألما

تأمل الملك وانظر فرط علته ... من أجله واسأل القرطاس والقلما

ومرض ابن كلس في شوال سنة ٣٨٠ هـ، فجزع عليه العزيز أيما جزع، ولبث يعوده ويرعاه، حتى توفي في الخامس من ذي الحجة؛ فحزن عليه حزناً شديداً، وأمر بتجهيزه تجهيز الأمراء والملوك، وخرج من القصر إلى داره في موكب صامت محزن، وشهد تجهيزه وصلى عليه بنفسه، ووقف حتى تم دفنه وهو يبكي بدمع غزير، واحتجب في داره ثلاثاً لا يأكل على مائدته والحزن يشمل الخاص والقصر كله؛ وأفاض الشعراء في رثاء الوزير الراحل ومديحه، فوصلهم العزيز جميعاً؛ وعلى الجملة فقد سما ابن كلس في ظل الدولة الفاطمية إلى أرفع مكانة، وترك بوفاته فيها أعظم فراغ، وكان له أعظم الأثر في توطيد حكمها وإدارتها بمصر.

- ٣ -

هكذا كانت حياة ذلك الوزير الخطير الذي يدين إليه الأزهر بأول خطوة عملية حقيقية في سبيل الحياة الجامعية؛ ومن المحقق أن تلك الخطوة الأولى في ترتيب الأساتذة والدروس بالأزهر بطريقة منظمة مستقرة، كان لها أثر كبير في تطور الغاية التي علقتها الخلافة الفاطمية بادئ ذي بدء على إنشاء الجامع الأزهر؛ فقد كانت هذه الغاية كما رأينا أن يكون المسجد الجامع الجديد رمز الخلافة الجديدة ومنبرا لدعوتها؛ ولكن يلوح لنا أن الخلافة الفاطمية لم تكن ترمي في المبدأ إلى توجيه الأزهر إلى تلك الناحية الجامعية؛ ذلك لأن

<<  <  ج:
ص:  >  >>