فدرس قواعد الإسلام وشرائعه سراً، وفي شعبان سنة ٣٥٦ هـ، دخل جامع مصر (جامع عمرو) وصلى به الصبح في موكب حافل؛ ثم ركب في موكبه إلى كافور، فخلع عليه، واشتهر أمره، وعلت منزله، وقوي نفوذه؛ فتوجس وزير مصر جعفر بن الفرات من تقدمه وتمكن نفوذه شراً، وأخذ يدس له الدسائس، ويوغر عليه الصدور؛ فخشي ابن كلس العاقبة، وفر إلى المغرب في شوال سنة ٣٥٧ هـ، ولحق بالمعز لدين الله الخليفة الفاطمي، وهو يومئذ ينظم مشروعه لغزو مصر، فقدر المعز مواهبه وكفاياته، ووقف منه على أحوال مصر ومواطن القوة والضعف فيها؛ ولبث ابن كلس في خدمته حتى تم فتح مصر على يد جوهر الصقلي. ولما قدم المعز إلى مصر بأهله وأمواله وجيوشه في رمضان سنة ٣٦٢ هـ، قدم معه ابن كلس، وقلده المعز شؤون الخراج والأموال والحسبة والأحباس وسائر الشؤون المالية الأخرى، فأبدى في إدارتها وتنظيمها براعة وزاد الدخل زيادة واضحة، ثم عهد إليه المعز بشؤون الخاص؛ ولما توفي المعز بعد ذلك بقليل في ربيع الآخر سنة ٣٦٥ هـ فوض العزيز بالله ولد المعز وخليفته إلى ابن كلس النظر في سائر أموره ثم لقبه بالوزير الأجل؛ ووقعت في حقه وشايات من بعض خصومه فاعتقله العزيز بالقصر بضعة أشهر، ثم أطلقه ورده إلى مناصبه؛ وتضاعفت منزلته لدى العزيز وغدا أقوى رجل في الدولة؛ وبذل ابن كلس جهوداً عظيمة في تنظيم الإدارة والدواوين، وكان من أكبر بناة الدولة الفاطمية بمصر وموطدي دعائمها ونفوذها.
وليس غريباً أن يحرز رجل مثل ابن كلس تلك المكانة الرفيعة في ظل الدولة الفاطمية مع أنه يهودي الأصل والنشأة؛ فقد كانت الخلافة الفاطمية تصطنع الذميين والصقالبة، وتولهم ثقتها؛ وقد ولى وزارتها فيما بعد، في عصر الحاكم بأمر الله، وزراء يهود ونصارى خلص مثل ابن رسوين، وابن فهد، وعيسى ابن نسطورس، وابن عبدون؛ وتولى بعد هؤلاء كثيرون في عهود مختلفة؛ ونستطيع أن نفهم سر ما كانت توليه الخلافة الفاطمية لوزرائها الذميين من العطف والثقة إذا ذكرنا أنها تتهم من بعض خصومها بالانتماء إلى أصل يهودي، وإنها كانت تتهم في عقائدها.
ولم يكن ابن كلس وزيراً وسياسياً عظيما فقط، بل كان عالماً وأديباً كبيراً أيضاً، وكان يعقد بداره مجالس علمية وأدبية دورية ينتظم في سلكها أكابر الفقهاء والأدباء والشعراء؛ وكان