للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حتى كانت الثامنة فإذا هو يطرق الباب ثم يفتحه في هدوء. ودخل عليَّ شاحبا مكدوداً واجما مهموما. ومد إليَّ يده وكأنه قرأ في وجهي إشفاقي وتلطفي، فابتسم ابتسامة قصيرة ثم جلس وقد اتكأ بمرفقه على حافة القعد وأسند رأسه إلى قبضة يده، وشملته كآبة مرعبة دق لها قلبي فأنا اعرفه ثائر العواطف واسع الرحمة يستوقف بصره بكاء بائس فتدمع مقلتاه، ويطرق أذنه أنين ملتاع فيملك عليه مشاعره وكثيرا ما اظهرت له إشفاقي فكان يضحك مني قائلا: لا حيلة في ذلك فتلك جبلته. ولقد كان يتهم نفسه بالطفولة ولكنه كان يعود فيفتخر بهذه الطفولة التي تملأ قلبه رحمة وحناناً. واطرق قليلا ثم رفع رأسه وقال وهو يضحك ضحكة غريبة تعبر عن الأسى والألم: (هو شهر، ولكنه قرن في حوادثه) وتالله لقد ألهب شوقي بتلك العبارة فاصخت بسمعي إليه وأقبلت بكليتي عليه وفهم هو من نظراتي أني استعجله فهز رأسه هزة عصبية وقال:

لله ما اغرب هذا المسرح الهائل مسرح الحياة الذي يموج بالناس في غير نظام وكل يلعب دوره حتى يسدل الستار عليه فإذا هو في طي الفناء وفي أغوار الأبدية. هذا ضاحك مستبشر وهذا فرح فخور. وهذا بائس محزون وهذا حائر مشدوه وهذا مستسلم وهذا مغتر متطاول وهذا. . . وأخيراً يتساوى الجميع فيساقون في سكوت كل إلى حفرته.

قلت أمرك عجب ايها الصديق وهل هذا ما يحزنك هذا الحزن؟ لكأني بك قد اجتمعت فيك كل هذه الصور. ماذا أحزنك وعهدي بك مرحا خلي البال؟ وتنهد الفتى تنهدا عميقا وقال:

(على المسرح المرعب او قل في زواياه التي لا تراها الا الأعين البصيرة او التي لا تراها الأعين الا مصادفة، على هذا المسرح الصاخب المضطرب وفي هذه الزوايا المتوارية عن الأنظار يوجد من المآسي والآلام ما يتفطَّر له القلب حقاً. . .)

وقاطعته قائلا: هون عليك يا فيلسوفنا الصغير وما لك ولهذا الانقباض وأنت في زهرة العمر؟

فنظر إلي نظرة لوم وقال:

(ما حيلتي وتلك جبلتي؟ يراني الناس ضاحكا فرحا فيظنون أني خلو من الهموم، وتالله ما ضحكي الا خداع مني لنفسي ومغالبة لشعوري، هو كالزهر الصناعي يغالط به الطفل نفسه. . . ولكن. . . أراك على حق فسأضحك وسألعب وسأنسى كل شيء. . . نعم سوف

<<  <  ج:
ص:  >  >>