المعاني المقصودة، ويظهر سخطه وتبرمه بالغازي الذي يحول دائماً بين المسلمين الأتراك وبين أداء فريضة الحج، ويرهق كل من أراد الحج بالضرائب الفادحة.
من ذلك ترى أننا كنا على ظهر الباخرة من بلاد متباينة، ولكن تجمعنا جامعة الإسلام، وتؤلف بين قلوبنا وتجعلنا نعيش كأفراد أسرة واحدة. فلما اقترب موعد العشاء أخذنا أماكننا على المائدة، وكان يخيل إلى كل من يرانا أننا في برج بابل، فكل منا يتكلم بلغة لا يفهمها الآخر، بيد أننا سوف نصل بعد بضعة أيام إلى جدة وتطأ أقدامنا الأرض المقدسة فنخلع عن أنفسنا تلك الملابس التي تفرق بيننا لنستبدل بها لباس الإحرام الفضفاض بحيث لا يصبح أي فارق بيننا بل نكون سواسية في حضرة رب البيت الكريم.
وبعد انتهاء طعام العشاء بقليل صفرت الباخرة صفيراً عالياً فغادرنا المائدة وتهيأنا للوضوء، ثم صلى كل منا ركعتين قرأ فيهما سورة الإخلاص وقل يا أيها الكافرون.
وكان البحر هادئاً والهواء ندياً والنجوم تتألق في القبة الزرقاء، وراحت الباخرة التي كانت تحمل على ظهرها أكثر من ٧٠٠ حاج تلقى مراسيها بين هتاف الحجاج ودعواتهم الحارة.
وهكذا ظل الحجاج في هرج ومرج، فكنت ترى البعض يهتف بقوله: لبيك اللهم لبيك، والبعض الآخر مستغرقاً في صلاته، وآخرين صامتين لا يبدون حراكاً، شاخصين بأبصارهم في ذهول نحو الأرض المقدسة التي خرج منها سيد الخلق ورسول رب العالمين.
وما كنت بأقل من هؤلاء الحجاج شعوراً بالغبطة والابتهاج، ولزمت مكاني خاشعاً راكعاً لا تقوى قدماي على الحركة، ودقات قلبي تثب في قوة وعنف بينما يردد لساني في خفوت: لبيك اللهم لبيك. ثم انهمرت الدموع من مآقي ولم أملك أن أمنع نفسي من الاسترسال في البكاء. أجل! أدركت الحق الصحيح ولمست عظمة هذا الدين الحنيف، وعبثاً حاولت النوم في تلك الليلة، بل شرد عقلي واتجهت بتفكيري إلى أعمال الخلفاء، رضوان الله عليهم، وإلى رعايتهم الأمم الإسلامية، وتوزيع أسباب العدالة عليها طبقاً لأصول الشريعة السمحاء.