الأطفال الصغار. وبعد الغداء جلسنا إلى الدليل نستمع لحكاياته الطريفة عن حياته فقال وقد مال في جلسته واسند ظهره إلى حجر كبير، وعقد يديه على رأسه: من خمس وعشرين سنة كنت شابا شقيا أجوب الصحراء شرقا وغربا شمالا وجنوبا لا أستقر على حال، وفي مرة نزلت السويس وقت موسم الحج فتحككت بشيخ مغربي يحمل خرجين كبيرين ينوء بثقليهما فظن أني أسديه المعونة فمد يده إلى رأسي ودعا لي بالهداية ودعاني أن أرافقه إلى الحجاز، وقد كان فأديت الفريضة واستقبلت الكعبة، وبصوت عميق خلته يخرج من كل جسمي دعوت الله ان يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، فاستجاب الله دعائي، وعدت من الحج صالحا طاهر القلب شديد الإيمان، والتحقت بالأزهر فمكثت فيه خمسة عشر عاما إلى ان قطعت عني الجراية في عهد الشيخ محمد عبده، فتحولت إلى التجارة وشغلت بعرض الدنيا ولكني وقد ناهزت الخمسين لا زلت شديد الحنين إلى الجبل فأخرج إليه كلما سنحت الفرصة فأقضي فيه أياما قريبا من الله بعيدا عن المدينة وكدرها ثم أعود وقد تطهرت نفسي وهدأ عقلي واستراح جسمي. ثم انه على غير انتظار امسك عن الكلام وترقرقت دمعة في عينه وتحول ببصره عنا وأطرق برأسه ثم أطبق عينيه ونام.
كان البرد في تلك الليلة شديدا فآوينا إلى مضاجعنا مبكرين وأشعلنا نارا كبيرة لنصطلي، وفي أول الليل اكفهر الجو وعصف الريح وأبرقت السماء وأرعدت وانهمر مطر غزير ثم اخذت الصواعق تنقض من حولنا، والبرق يومض بلمعان يضيء الفضاء كأنه نور النهار، والماء يتدفق إلى الوادي بدويِّ شديد، ثم فاض الوادي بسيل عنيف جارف، فكان مشهدا رائعا. وبعد ساعة انقشعت السحب وصفا أديم السماء واشرق الوادي بنور القمر فسرى عنا ما ساورنا من قلق واضطراب، ثم نمنا نوم الهناء والعافية. وقبل الفجر استيقظت على صوت حركة غير عادية بمعسكرنا فوجدت الجماعة يتقلدون سلاحهم وعلامات الاهتمام بادية على وجوههم وأبصرت الدليل ينزل إلى وهدة متوسطة ويقف وراء صخرة كبيرة ويتجه ببصره نحو البئر ثم يتبعه عبد الله بك ويهمس في أذنه بكلمات ويحتمي هو الآخر وراء حجر كبير ثم تتفرق باقي الجماعة على الصخور المجاورة ويتخذونها متاريس يكمنون وراءها وينصبون بنادقهم على حوافيها. دهشت لهذا الاستعداد وانتقلت إلى حيث كان خالي رابضاً واستوضحته في صوت خافت جلية الأمر فأشار إلى