للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ثم ختم جوابه بقاصمة الظهر، قال: (إن هذا مسلك قد يستساغ في الدعاية لبيت من بيوت التجارة، أما العلم فيجب أن يقيئه قيئاً)

فأجاب بستور على هذا النقد بنشرة تضمنت حجاجاً غريباً لا يجوز حتى على محكّمين في مناظرة بقرية في الريف. استكبر على كوخ أن يدعي أن ألقحته تحوي أخلاطاً من مكروبات. قال: (لقد كانت صناعتي من قديم فصل المكروب وتربيته خالصاً من كل شائبة. صناعة اصطنعتها عشرين عاماً قبل ميلاد كوخ في عالم العلم سنة ١٨٧٦، فدعواه أني لا أعرف كيف أربي المكروب نقياً لا يمكن أن تكون إلا هزلاً وهذراً)

وأبت الأمة الفرنسية بوطنية صادقة أن تؤمن بأن كوخ استطاع أن يزحزح بطلها العظيم عن عرشه العالي، وأن يبطل ربابته للعلم، وشرك صغراء الأمة في ذلك كبراؤها، وعلى كل حال فما كان ينتظر الناس من ألماني غير هذا؟! وما أسرع ما انتخبوا بستور عضواً في المجمع الفرنسي فمنحوه كبرى المنح التي يطمع فرنسي فيها، وفي يوم جلوسه بين أعضاء المجمع الأربعين الذين يسمونهم بالخالدين قام ارنست رينان بالترحيب به، وهو العبقري الزنديق الذي جعل من يسوع الرب بشراً رجلاً غفر كل شيء لأنه فقه كل شيء؛ عرف رينان أن بستور لو كان ستر الحق لما ذهب هذا بكل فضله، ولم يكن رينان عالماً، ولكن كان له من الحكمة والفطنة ما يدرك به أن بستور أتى بشيء فخم عظيم لما أثبت أن الجراثيم الضعيفة تمنّع الأجسام فلا تنالها الجراثيم القوية، حتى ولو لم تبلغ هذه المناعة مائة في المائة

التقى هذان الرجلاًن في هذا اليوم المهيب، فالتقى منهما نقيضان: بستور المغامر المحارب الوثاب المليء بشتيت من عقائد هوشت عليه أحياناً وجه الحق، ورينان في ضخامته كالجبل يخاطبه جالساً من علٍ بنفس ساكنة مطمئنة لا تهزها الرياح الهوج، وكيف يهتز جسمه لشيء أو تتحرك نفسه لأمر، وهو قد بلغ به الشك أن أرتاب في وجود نفسه، وارتاب في قِيَم الأعمال فلم يقم لعمل فصيره طول القعود من أسمن رجال فرنسا.

رحب رينان ببستور إلى المجتمع فأسماه عبقرياً، وقرن أسمه بأسماء أكبر من عرف من العباقرة، ثم عرج يُقرّع صياد المكروب الشيخ المشلول المضطرب تقريعاً خافتاً خافياً، قال: (إن الحقيقة يا سيدي كالمرأة الغَنِجَة اللعوب، لا تملك بالعاطفة الكثيرة تُبذل لها،

<<  <  ج:
ص:  >  >>