وكثيراً ما تأتيك منصاعة بإعراضك عنها. وقد تسلم إليك قيادها فتظن أنك ملكتها فإذا بها تُفلت من قبضتك، فإذا أنت اصطبرت عليها عادت فوضعت عنقها في يدك. ولا يمنعها وداع وما سقط فيه من دموع أن تعود إلى الظهور، ولكنك إذا أحببتها فغلوت لم يكن لك منها غير البين والقطيعة)
لا أظن أن رينان، وهو الحكيم، خال أن كلماته الجميلات هذه سيكون لها أثراً ولو قليلاً في إصلاح المعوجّ من بستور، ولكنها كلمات ترينا في اختصار علة ما لاقى بستور في حياته من فواجع، وهي تعلمنا ما يجر الرجل المجنون على نفسه من المآسي والأحزان إذ هو خال أنه يستطيع قلب العالم في السبعين عاماً التي أذن الله له أن يحياها
- ٧ -
بعدئذ أخذ بستور بضع أنابيب من الزجاج في حلوق الكلاب وهي تتلوى وتتضور من داء الكلَب. وكيف استطاع أن يضع هذه الأنابيب في هذه الحلوق لهذه الضاريات؟ لا يعلم هذا غير الله. هذان خادمان قائمان على فكي كلب قوي عصيّ يفتحان فاه كَرْهاً واغتصاباً. وهذا بستور قائماً في وجه هذا الكلب تكاد لحيته تمس هذه الأنياب وفيها الموت المرير. وهذا هو يمص في أنبوبته من حلق الكلب بعض رغائه، ليأتي منه بعينة يبحث فيها عن مكروب الداء. وأحياناً يناله الرشاش من هذا الرغاء فلا يأبه له وقد جاز أن يكون فيه القضاء
أريد الآن أن أنسى ما قلته عن حب بستور للدعاية، فتصوري عينيه الزرقاوين وهما تحدقان في حلق هذا الكلب الهائج المسعور لا يتفق مع هذه الذكرى
ليت شعري ما الذي وجه بستور إلى صيد مكروب الكلَب؟ لقد كان في الوجود عشرات من الأدواء يجهلها العلماء، أدواء قتلت من الناس أضعاف ما قتل داء الكلَب، ولم يكن بها من الخطر على بحّاثة مغامر مثل الذي كان بهذا الداء اللعين الذي لا ينجو صاحبه أبداً، فما هو إلا أن ينفك الكلب من قيده فتقع الواقعة التي لا مردّ لها
يترجّح عندي أن شاعريته، والفن الخفي في نفسه، هما اللذان دفعاه إلى اختيار هذا الداء على الأدواء جميعاً. قال بستور:(لطال ما ساورتني صرخات ضحايا هذا الذئب المجنون الذي كان يهبط على الناس في شوارع اربوا لما كنت طفلاً. . .). عرف بستور من صباه