الضرورات التي كانت سبب ولادتها، فتعود إلى الظهور. والولادة حالة محلها في (الدور العالمي) وعند ذلك ستجد كل شقاء وكل غبطة، وكل صديق وكل عدو، وكل أمل وكل ضلال، وكل غرسة وكل شعاعة من الشمس، وكل نظام الأشياء، وهذا الدور الذي أنت فيه مثله مثل الحبة سينبثق من جديد
في كل دور من أدوار الوجود الإنساني، لكل إنسان - على الأغلب - ساعة تظهر فيها الفكرة القوية القائلة (بالرجعة الدائمة) لسائر الأشياء. وهذه الساعة التي تبلغها الإنسانية هي ساعة (الهاجرة)
وما إن بدأ نيتشه هذا المذهب حتى سرى في روحه، وغمر فكره، وغلب على قلبه؛ وقد عزم على أن يغامر بعشرة أعوام من عمره، يدرس التاريخ الطبيعي لكي يستطيع أن يبني مذهبه هذا على قواعد علمية ثابتة، ولكنه لاذ بالصمت وأدرك خيبته في زعمه هذا. ولكن فكرة الرجعة الدائمة ظلت تتجاذب فكره، وظل يدور حولها. وهذه الفكرة كانت إحدى هبات (زرادشت) الكبرى إلى رجاله
وقد وضح جلياً تأثير هذه الغمة التي غشيت نيتشه يوم أصبح يؤمن بهذه الرجعة الدائمة. ولن نستطيع أن نتخيل حلاً لمسألة الوجود أظلم وأبهم من هذا الحل، فالوجود لا يعني شيئاً، إنه وليد مقادير عمياء، ينتج من وراء مصادفاته الخالية من الشعور قوى يمتزج بعضها ببعض، فيخلق بعض النماذج على حسب المصادفات. أما الحركة الشاملة للوجود فهي لا تقود جزءاً منه ولا قسما. وإنما هي تدور حول نفسها بدون انقطاع في نفس الدائرة، وهذه الحياة التي نحياها سنكررها إلى ما لا نهاية، دون أن يكون هناك رجاء في التغير. وفي كل لحظة مشحونة بالكآبة والشقاء والسأم سنحياها مرات لا تحصى. فهل في الإمكان أن نتخيل ما يصنع هذا الافتراض في جماعات المنحطين والمرضى والمتشائمين، وفي كل من نرجح كفة شقائهم على كفة فرحهم؟ إن عند أغلب الناس - كما يبدو - فكرة تشبه فكرة العودة الدائمة؛ تظل وإن لم تكن مبنية على مبدأ معين - غير مؤذية ولا ضارة، لأنها تبغي فكرة مجردة خارجة عن الإدراك، لأن مخيلتنا غير قادرة على إخراج هذه الفكرة إلى حيز الحقيقة، ولأن المعارف التي يتلقاها عقلنا لا تعين إلا قليلاً من قوتنا الحاسة. ولكن نيتتشه هو الذي يهب الحياة لتعاليمه، وهو يتفلسف بكل وجوده