العظيم معروف الكرخي أرسل إليه الأسود بن سالم وكان صديقا لهما، فقال لمعروف: أن بشر بن حارث يريد مؤاخاتك وهو يستحي أن يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن تعقد له فيما بينه وبينك أخوة يحتسبها ويعتد بها، إلا أنه يشترط فيها شروطاً: أولها أنه لا يحب أن يشتهر ذلك، وثانيها ألا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة؛ فقال معروف: أما أنا فإذا أحببتُ أحداً لم احب أن أفارقه ليلا ولا نهارا أزوره في كل وقت، وأوثره على نفسي في كل حال؛ وأنا اعقد لبشر أخوةً بيني وبينه ولكني أزوره متى أحببت، آمره بلقائي في مواضع نلتقي فيها إذا هو كره زيارتي
قال حسين المغازلي: وكان هذا كله من أمر بشر معروفاً في بغداد لا يجهله أحد من أهلها إذ لم يكن لبغداد إماما غيره وغير ابن حنبل؛ فما كان اكثر عجبي حين كنت عنده يوماً وقد زاره فتح الموصلي، فقام فجاء بدراهم ملء كفه ودفعها إلي وقال: اشتر لنا أطيب ما تجد من الطعام، وأطيب ما تجد من الحلوى، وأطيب ما تجد من الطيب؛ وما قال لي مثل ذلك قط، وهو الذي رأى الفاكهة يوماً فقال: ترك هذه عبادة! وهو القائل لأبى نصر الصياد: لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة
فذهبت فاشتريت وانتقيت وتخيَّرت، ثم وضعت الطعام بين أيديهما فرأيته يأكل معه وما رأيته أكل مع غيره، ورايته منبسطاً إليه ومالي عهد كان بانبساطه إلى أحد. وقد كنت أخبرته في ذلك النهار بخبر احمد بن حنبل عَلمتُه من إدريس الحداد؛ فانه لما زالت المحنة بعد أن ضُرب بين يدي المعتصم وصُرف إلى بيته، حمل إليه مال كثير من سروات بغداد وأهل الخير فيها، فردَّ جميع ذلك ولم يقبل منه قليلاً ولا كثيراً، وهو محتاج إلى أيسره، وإلى الأقل من أيسره، وإلى الشيء من أمله، فجعل عمَّه اسحق يحسب ما ورد في ذلك اليوم فكان خمسين ألف دينار، فقال له الإمام: يا عم أراك مشغولاً بحساب ما لا يفيدك. قال: قد رددت اليوم كذا وكذا ألفاً وأنت محتاج إلى حبة من دانق. فقال الإمام: يا عم لو طلبناه لم يأتنا، وإنما أتانا لما تركناه
قال المغازلي: فنمت تلك الليلة وأنا أفكر في صنع الشيخ وقد تعلق خاطري به كيف انقلبت الحال معه، وأي شيء هذه الحال، وجعلت أكدُّ ذهني لأعرف الحقيقة العقلية التي سلَّطت عليه هذه الضرورة فتسلط النعيم على نفسه، وأنا اعلم أن للقوم علوماً روحانية ليست في