الكتب، فمنها ما لا يتعلمونه إلا من الفقر، ومنها ما لا يتعلمونه ألا من البلاء، ومنها ومنها، ولكن ليس منها ما يتعلمونه من اللذات والشهوات؛ وذهب قلبي إلى أوهام كثيرة ليست في جميعها طائل ولا بها معرفة حتى غلبتني عيناي وأنا من وهج الفكر نائم كالمريض وقد ثقل رأسي واختلط فيه ما يُعقل بما لا يُعقل
فرأيت أول ما رأيت ملكاً جباراً يحكم مدينة عظيمة وقد أطلق المنادي في جمع كل أطفال مدينته فجيء بهم من كل دار، ثم رأيته قد جلس على سريره وفي يده مقراض عظيم قد اتخذه على هيئة نصلين عريضين لو وضعت بينهما رقبة لفصلاها عن جسمها؛ فكان هذا الجبار يتناول الطفل من أولئك فيضع إصبع إحدى قدميه في شقي المقراض فيقرضها فإذا هي تتناثر أسرع مما يقرض المقَص الخيط، ثم يرمى بالطفل مغشياً عليه ويتناول غيره فيبتر أصابعه والأطفال يصرخون؛ وأنا أرى كل ذلك ولا أملك إلا غيظي على هذا الجبار من حيث لا أستطيع أن أمضِيَ فيه هذا الغيظ فاقرض عنقه بمقراضه
ثم رايته يأخذ طفلاً صغيراً، فلما جاءت قدم الطفل بين شقي المقراض صاح: يا رب، يا رب! فإذا المقراض يلتوي فلا يصنع شيئاً وكأن فيه حجراً صلداً لا قدماً رَخْصَة. فتميز الجبار من الغيظ وقال مَن هذا الطفل؟ فسمعت هاتفاً يهتف: هذا بشر الحافي! لا يبلغ تاج ملك في الأرض أن يكون لقدمه الحافية نعلاً عند الله!
وكان إلى يميني رجل يتضوأ وجهه صلاحاً وتقوى، فقلت له: من هذا الطاغية؟ ولم اتخذ المقراض لأقدام الأطفال خاصة؟
فقال: يا حسين أن هذا الجبار هو ذل العيش، وهذا وسمُه لأهل الحياة على الأرض يحقق به في الإنسان معنى البهيمة أول ما يدب على الأرض حتى كأنه ذو حافر لا ذو قدم
قلت: فما بال هذا الطفل لم يعمل فيه المقراض؟
قال: أن لله عباداً استخصهم لنفسه، أول علامته فيهم أن الذل تحت أقدامهم، وهم يجيئون في هذه الحياة لإثبات القدرة الإنسانية على حكم طبيعة الشهوات التي هي نفسها طبيعة الذل؛ فإذا اطرح أحدهم الشهوات وزهد فيها، واستقام على ذلك في عقد نية وقوة إرادة، فليس ذلك بالزاهد كما يصفه الناس، ولكنه رجل قوي اختارته القدرة ليحمل أسلحة النفس في معاركها الطاحنة، كما يحمل البطل الأروع أسلحة الجسم في معاركه الدامية. هذا يُتعلم