للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

منه فن وذاك يُتعلم منه فن أخر، وكلاهما يرمى به على الموت لإيجاد النوع المستعز من الحياة، فأول فضائله الشعورُ بالقوة، وآخر فضائله إيجاد القوة

قال المغازلي: وضرب النوم على رأسي ضربة أخرى فإذا أنا في أرض خبيثة داخنةٍ قد ارتفع لها دخان كثيف أسود يتضرب بعضه في بعض، وجعلت أرى شعلاً حمراً تذهب وتجيء كأنها أجسام حية، فوقع في وهمي أن هؤلاء هم الشياطين: إبليس وجنوده وسمعت صارخاً يقول: يا بشرى! فلتبك السماءُ على الأرض، لقد أكل بشر الحافي من أطيب الطعام وأطيب الحلوى بعد أن استوى عند حجرها ومدرُها، وذهبُها وفضتها! فعارضه صائح أسمع صوته ولا أرى شخصه: ويلك يا زَلَنْبور! أن هذا شر علينا من عامة نُسكه وعبادته. فهذا ويحك هو الزهدُ الأعلى الذي كان لا يطيقه بشر؛ أنه إعنات سلَّطه على نفسه، فإني دفعت هذا (المغازليّ) الأعمى القلب ليزين له ما فعل احمد بن حنبل من رده خمسين ألف دينار على حاجته، زهداً وورعاً وقوة عزم ونفاذَ إرادة؛ وقلت عسى أن تتحرك في نفسه شهوة الزهد فيحسد أو يغار، أو تعجبه نفسه فيكون لي من ذلك لمَّةٌ بقلبه فأوسوس له فأنا نأتي هؤلاء من أبواب الثواب كما نأتي غيرهم من أبواب المعاصي، ونتورَّع مع أهل الورع كما نتسخَّف مع أهل السخف، ولكن الرجل وفيه حقيقة الزاهد، فقد أعطى القوة على جعل شهوته في اللذة قتل اللذة، وإذا جعلتها في الكآبة قتل الكآبة، وليس الزاهد العابد هو الذي يتقشف ويتعفف، ويتخفف ويتلفف، فإن كثيراً ما تكون هذه هي أوصاف الذل والحمق ويكون لها عمل العبادة وفيها إثم المعصية، ولكن الزاهد حقَّ الزاهد من أدار في الأشياء عيناً قد تعلمت النظر بحقه والإغضاء بحقه؛ فهذا لا يخطئ معنى الشر أن لبَّسناه عليه في صورة الخير، ولا معنى الخير أن زوَّرناه في صورة الشر، وبذلك يضع نفسه في حيث شاء من المنزلة، لا في حيث شاءت الدنيا أن تضعه من منازلها الدنيئة

وما أكل بشر من هذه الطيبات إلا ليبادر بها وسوستي ويردَّني عن نفسه وعن اللَّمة بقلبه، فلو أنه أعجبه زهد ابن حنبل ونظر من ذلك إلى زهد نفسه لحبط أجره. فبهذه الطيبات عالج نفسه علاج مريض، وقد غير على جوفه طعاماً بطعام، كما يبدِّل على جلده ثوباً بثوب، ولا شهوة للجلد في أحدهما

قال المغازلي: وثقل النوم على ثَقلةً أخرى فرأيتني في واد عظيم في وسطه مثل الطود من

<<  <  ج:
ص:  >  >>