الفلسفة الجدلية الأوربية استمدت من العرب والفلسفة العربية أكثر مما استمدت من قسطنطينية التي كانت مستودعاً لتراث المدنية اليونانية؛ وليس من ريب في أن جهود العرب في ميدان الكيمياء والطب كانت أكبر مستقي للغرب في هذا الميدان؛ فقد كانت الكيمياء العلمية علماً عربياً محضاً، وقد بلغت ذروة ازدهارها في العصور الوسطى في معامل قرطبة واشبيلية وغرناطة، وكان أطباء الأندلس أساتذة الطب في أوربا كلها، وإليهم كان يهرع الطلاب من سائر الأمم الشمالية؛ وكانت مدرسة سالرنو الطبية في جنوب إيطاليا تقوم على تراث الحضارة الإسلامية التي سادت صقلية وجنوب إيطاليا زهاء قرنين؛ وكانت آثار الطب العربي تبدو في هذا الميدان بصورة قوية بارزة؛ ويمكن أن يقال مثل ذلك على بعض العلوم الأخرى مثل الفلك والرياضيات، وقد بلغت أيضاً في الأندلس شأواً عظيماً
والخلاصة أن آثار الحضارة والعلوم الإسلامية في بناء النهضة العلمية الأوربية واضحة لا يمكن إنكارها؛ وإذا استثنينا ميدان الفنون في نهضة الإحياء، فأنه يصعب علينا أن نتصور ناحية من نواحي هذه النهضة الفكرية الرائعة؛ سواء في العلوم أو الآداب تبعد كل البعد عن التأثر بعبقرية التفكير الإسلامي، سواء مباشرة أو بواسطة عوامل أخرى. بيد أنه مما يؤسف له أن هذه الناحية لا تلقى في المباحث الغربية ما يجدر بها من الشرح والتقدير؛ ويلاحظ أن مؤرخ الإحياء الأوربي يكاد يغفلها بصفة مطلقة، هذا في حين أن مؤرخ العصور الوسطى لا يستطيع أن يغفلها
ولكن معظم مفكري الغرب ومؤرخيه ما زالوا ينظرون إلى تاريخ العرب والإسلام والحضارة الإسلامية ومؤثراتها نظرة خاصة قلما تنجو من مؤثرات الدين والقومية، بل لقد درج فريق منهم على اعتبار العرب ضمن القبائل والأجناس البربرية التي حطمت صرح الدولة الرومانية، واعتبار الغزوات الإسلامية لجنوب أوربا كوارث دينية وقومية؛ وما زالت المباحث التاريخية تبالغ في تقدير مؤثرات الحضارة الرومانية في أمم العصور الوسطى وتعتبرها دائما عاملاً حاسماً في كل تطور فكري أو اجتماعي، هذا بينما نراها تغفل تقدير الحضارة الإسلامية ومؤثراتها؛ ويلوح لنا أن الوقت قد حان لنعمل من جانبنا على تصحيح هذا الموقف، ورفع هذا الإجحاف الذي يلحق بتراث المدنية الإسلامية في