مكانها من صدره مكان هذا الصليب! وإنه لنصرانيته على وفاء غريب!
سكن القصر، فسكنت فيه اللذات والأهواء، وانطفأت تحت قبابه الأنوار والأضواء، وأنقلب الفرسان إلى مضاجعهم صرعى هوى وصهباء، وخلا القصر إلا من ربته الحسناء، وفارسها العربي ذي البهاء، وإلا من شمع ضعيفة السنا والسّناء!
جلست الحسناء الأسبانية إلى فراش ناعم وثير، والفتى العربي جاثم على ركبتي الحبيبة، صريع سهد وأرق، يُريدُ عينيه على إغفاءة لذيذة فتملس هذه الإغفاءة من عينيه الضحوكين!
وإنه لسادرٌ في حمى شديدة من أرق شديد، إذا تلك الحسناء اللعوب تريق على غدائره ماء الورد من قوارير حفّت بالعجب، وازينت بالذهب، وهي بعد منزوفة سكرى من الحبّ والطرب، لقد كانت تفعل ذلك سادرة حيرى، والفتى العربي غريق هواجس وأحلام، وشهيد ذكريات وأوهام، وكان صدره يلوح محتدماً مشبوباً تمزقه الزفرات، وتقطعه الآهات!
ثم ابتعث الحب في قلبه سكراً فسلبها صحواً، فأقبلت إلى فتاها تسعى، وراحت تَلثمُ شفتيه وقد عادتا كاللّظى، وهو في سبحه غريق حب وهوى
وحدَّقت إليه مبهولةً واجمة، فرأت على جبينه وقد عاد مسفوعاً مقروراً غمامةً بلون الدجى! فشجيت حتى لقد هدَّها الشجى، وبكت وأنصبّ دمعها على جفنيه فاستفاق راعشاً من هذا الندى!
لقد هزَّته وهو يحلم! بلى لقد كان يحلم! وقد رأى في حلمه القصير كأنه لا يزال في مسجد قرطبة الجامع، وخيل إليه أنه لا يبرح يطوف بالماء المقدَّس يغسل به جبينه كأنه عريقٌ في النصرانية أشجاه هذا الذي تمثل ورأى، وشعر بأن جوانب المعبد تميد ميداً، وإن ألوف الأصوات أخذت تطفو على نفسه فلا يستطيع لها رداً!
ثم خيل إليه أنه يسمع قعقعة العمُد، وصليل القباب وهي تنهار، كأن مسجد قرطبة الجامع قد عاف عيشه الخابي، فتداعى مغيظاً مُحنقاً
وتمثّل الناس والرهبان وآلهة النصرانية وقد طوتهم الأنقاض، فاستفاق راعشاً، وأنطلق يعدو في القفر البعيد النواحي شاجناً ناشجاً، وقد خلف حبه في القصر يائساً