القتلة في الصفوف فخشي أن يحدث فرارهم رعباً في القلوب. ولقد أحسن الملك صنعاً بعودته السريعة إلى منى ليزيل ما علق بنفوس الحجاج من الرعب، فانه ما كاد يستقر في سرادقه حتى هرعت إليه جموع الحجاج ووفود البلاد لتقدم تهنئتها بنجاته من يد الآثمين. هنا سنحت الفرصة لان أقف وجها لوجه مع العاهل العربي الذي يحكم بلاده بالعدل والشريعة، ويسودها العطف والمحبة؛ فقد كان ابن السعود يجلس في سرادقه تحيط به ثلة من الحرس النجدي، وهم من صفوة الرجال الأشداء، وكانت ملابسهم المزركشة تخطف بسناها الأبصار، يتوج رؤوسهم العقال البدوي، وتتدلى من تحته ضفائر الشعر الكثيف الأسود حتى تصل إلى صدورهم، بينما أقداح القهوة العربية وأكواب الليمون المثلج تطوف على الوفود بين حين وأخر. وعندما غشيت مجلس الملك كان الخطيب الماثل بين يديه قد انتهى من خطابته، فلما التقى طرف الملك بطرفي أومأ إلى أن أتقدم، فجمعت شجاعتي وأنا في نشوة روحية عميقة، ورفعت يدي إلى رأسي إجلالاً واحتراماً ثم تقدمت. . .
لقد قابلت في شبابي وأنا في استامبول، السلطان عبد الحميد، ورافقت السلطان محي الدين في إحدى سياحاته، وزرت السلطان رشادا، وتحدثت إلى كثير من الرؤوس المتوجة في أوربا، لكنني لم أشعر مطلقاً أني وقفت وجهاً لوجه أمام التاريخ ألا في تلك المقابلة، لاسيما عندما رفعت عيني إلى وجه ابن السعود، ولمحت في ثناياه دلائل الحزم والقوة والشفقة والحنان والمهابة والجلال. ولقد لاحظت أن بطرف عينه اليمنى حولاً، بينما العين الأخرى قوية سليمة، والمعروف عن الملك أنه شجاع مقدام، تضرب القبائل بشجاعته المثل، فعندما كان في الحادية عشرة من عمره، قاتل في إحدى المعارك خصما له فقضى عليه بضربة من حسامه: وهو رجل شديد الإيمان بالله، ولقد كان إيمانه من أقوى الأسباب في تأسيسه المملكة السعودية وإحياء مجد الجزيرة العربية
وما كدت أقف أمام الملك حتى خاطبته بصوت جهوري فيه كل معاني الإخلاص: السلام على أمير المؤمنين، أنني أحمد الله على نجاتك من يد ذلك القاتل الأثيم عدو الدين
ومدَّ إليّ ابن سعود يده وصافحتها ثم طلب إلى أن أزوره في قصره؛ وبعد أن شهدت حفلة الاستعراض العسكرية التي أقيمت (بوادي الشهداء) ورأيت ضروباً من الفروسية العربية، تلك الفروسية التي خلقت من الحب أدباً عالياً ومن المرأة صنماً معبوداً توجهت إلى القصر