الحياة الاجتماعية، وحضارة ما قبل التاريخ مستعيناً بدرسه ومقارنته بين اللغات
وإذا شئنا أن نوضح بعض خطيئات نيتشه فلا ننس أن آثاره كلها (ذاتية) والحقيقة - غير الذاتية - يراها نيتشة ضرباً من ضروب العاطفة الدينية؛ وإننا لنطلب إلى العالم ألا يحترم إلا الحقيقة، وأن يكون في بحثه عنها خالياً من الأهواء متجرداً عن شخصيته - على قدر الإمكان - وإننا لنعلم أن التجرد عن الذاتية في البحث عن الحقيقة هو خديعة، ونعتقد أن ليس في مقدور أحد أن يتجرد عن شخصيته وينظر إلى الأشياء نظرة خالصة لا تجتلي إلا الأشياء؛ وبهذا ليست كل حقيقة ذاتية قبل كل شيء: وجوهر الموضوع - في البحث العلمي - لا يقف عند ما اغترفه الكاتب من حقيقة، ولكنه يقف على مقدار ما أودع في هذه الحقيقة من ذاته. ونحن على رغم هذا أرانا نؤمن بالحقيقة المجردة، الحقيقة البارزة بحقيقتها خارج إدراكنا وحواسنا، وأرانا نؤمن بالمؤلف ويزيد احترامنا له كلما دنت أفكاره مما ندعوه (الحقيقة المتجردة من الذاتية)
لنا الحرية في أن نزن آثار نيتشه بهذا الميزان، ولكن نيتشه كان قبل كل شيء يفتش عن نفسه ويسعى وراء معرة نفسه؛ ولقد كان اهتمامه ضعيفاً في الاطلاع على الأشياء بحقائقها، وإنما وقف اهتمامه كله وجهوده على ما يمثل شخصيته، فخلق من الأشياء خرافات كاذبة، وقد علم أنه بما وصف نفسه حين كتب عن (شوبنهاور وفاجنر) أنه حول الحقيقة إلى خرافات جذابة غريبة، ولأن تكون مظاهر لشخصية نيتشه أجمل وأحرى من أن تكون مظاهر تمثل حقيقة الوجود الخارجي، وبهذا يصبح عبثاً سعينا وراء الحقائق التي عالجها نيتشه والعمل على توفيق بينها وبين الواقع
وهنالك تأثير معاصريه فيه - سواء أحس هو هذا التأثير أم لم يحسه - وفكرته التي جاء بها - إذ جردت من أثوابه الخاصة - تبدو فكرة قديمة ليست بابنة ذاته. فكل الآراء التي عالجها، من قوله بالذاتية وعبادة النفس والثورة على قانون المساواة وعبادة الإنسانية قد سبقه إلى معالجتها أحد معاصريه كما سبق (فلويير) و (رنان) إلى الكتابة عن المذهب الأرستقراطي. وقد وجد نيتشه في الكاتب (أوجين دوهرنك) عضداً له في محاربة التشاؤم. واتحد مع (هارتمان) في النفور من الاجتماعيين والفوضويين، واتفق معه في القول باستحالة المساواة بين الناس، فقالا بفضيلة الحرب المدنية، واتفقا على جعل الشفقة مادة