ولكن أتُرى هؤلاء العلماء - على ما بلغوا من التوفيق فيما جاهدوا، وما أصابوا من الإجادة فيما عملوا - قد استطاعوا أن يحملوا واحداً لا يهتم بسيرة الرسول على أن يقرأ سيرة الرسول، أو ودعوا نفراً من شبابنا الذين لا يحسنون إلا اللهو والعبث إلى التماس الحد في حياة محمد وابتغاء المثل العليا في تاريخه. . .؟ لو أن واحداً من هؤلاء الشباب قرأ شيئاً من ذلك لأفاد وانبعثت نفسه، ولكن أين ما يحمله على أن يقرأ. . .؟ إن هذه الكتب على ما أجدت قد عجزت أو كادت عن اجتذاب هذا النوع من الشباب الذي لا يعرف شيئاً عن محمد ولا يهتم أن يعرف؛ ولكن لرجل الفن سبيلا غير ذلك، وقد عرف توفيق الحكيم سبيله
قصد المؤلف من كتابه إلى عرض حياة الرسول الكريم عرضاً يكشف عن دقائقها ويجلو صورها على أسلوب من الفن بعيد عن فلسفة العاِلم وتحقيق المؤرخ، على أن فيه من الفلسفة كما ترى الحادثة بصورتها في حياتنا العادية مرئية مسموعة، تفعل فعلها في النفس وتترك أثرها الفلسفي من غير تعليق ولا بيان؛ وللأستاذ توفيق في فنه باعٌ وذراع. . . فهو قد درس (القصة) دراسة العلم، وفقهها فقه الأدب، وعالجها علاج الفنان المبتكر، وانتج فيها إنتاجاً سيخلد به بين أدباء العربية؛ ولا أغلو إذا قلت إنني لم أقرأ حواراً تمثيلياً في العربية ويلذّني مثل حوار يصنعه توفيق الحكيم
بهذه المقدرة الفنية قرأ توفيق مكتب القدماء عن السيرة، وبحاسة الفنان تمثلت له (مناظرها) كما نقلها في كتابه. وهو ضرب من الرواية لا نستطيع أن نضع له اسماً من أسماء الرواية، فهو ليس قصة، وهو ليس رواية، وهو ليس ترجمة تاريخية، ولكنه منها جميعاً؛ وهو مناظر حواريّة، يباعد بينها الزمان والمكان، وتجمع بينها وحدة الموضوع والغرض؛ على انه ليس لمؤلفها شيء من لغة الحوار ولا أسلوب الكلام، فليس له منها أكثر مما للمصور يرسم لك جزءا من الزمان في ورقة، لا ينقل إليك الزمان الماضي ولكن ينقلك إليه، فإذا أنت ترى منه أكثر مما تريك الصورة، وتسمع منه ما لا يُسمعك الرسم الصامت
ولا شك أن المؤلف قد جهد جهداً غير يسير في إخراج كتابه على ما يشتهي، فهو نوع لم يسبق إليه، وباب اخترعه في فن الرواية ليس له حدود مرسومة تهديه السبيل؛ هذا إلى أن الموضوع دقيق، يقتضي الصبر والأناة وحسن الاحتيال؛ وما ظنك بالكاتب المسلم يؤلف