يظن؛ ثم قلت له: إن كنت روح الله وكلمته كما تزعم فمر هذا الحجر ينقلب خبزاً. فكان تقياً فتذكر فإذا هو مبصر، فقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. فمثل هذا لو مات جوعاً لم يتحوَّل، لأن الموت إتمامُ حقيقته السامية فوق هذه الدنيا، ولو ملئت له الدنيا خبزاً وهو جائع لم يتحول، لأن له بصراً من فوق الخبز إلى حقيقته السماوية؛ فليس بالخبز وحده يحيا بل بمعانٍ أخرى هي إشباع حقيقته السماوية التي لا شهوة لها
ثم ارتقيت به إلى ذروة جبل وأريته ممالك الخافقين كشفتها كلَّها لعينيه وقلت له: هذا كله لك إذا أنت سجدت لي. فكان متقياً فتذكر فإذا هو مبصر: أبصر حقيقة الخيال الذي جسَّمته له وعلم أن الشيطان يعطي مثل معاني هذه الممالك في جرعة خمر، كما يعطيها في ساعة لذة، كما يعطيها في شفاء غيظ بالقتل والأذى، ثم لا يبقى من كل ذلك باقٍ غير الإثم، ولا يصح منه صحيح إلا الحرام. ومن ملك الدنيا نفسها لم يبق لها إذا بقيت له، فهي خيال في جرعة الحياة كما هي خيال في جرعة الخمر
يا أبا عامر؛ أن هذا النظر الذي وراءه التذكر الذي وراءه التقوى التي وراءها الله، هذا وحده هو القوة التي تتناول شهوات الدنيا فتصفّيها أربع مرات حتى تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر وآخر وجودها التلاشي
فالبصر الكاشف الذي يجرد الأشياء من سحرها الوهمي، هذا هو كل السر
قال الشيخ: لعنك الله فكيف مع هذا تفتن المؤمن؟
قال إبليس: يا أبا عامر هذا سؤال شيطاني. . . تريد ويحك أن تحتال على الشيطان؟ ولكن ما يضرني أن أفسرها لك. ليس الإيمان هو الاعتقاد ولا العمل، ولو كان من هذين لما شقَّ على أحد ولصلحت الدنيا وأهلها. إنما الإيمان وضعُ يقين خفيّ يكون مع الغريزة في مقرها، ويصلح أن يكون في مقرها لتصدر عنه أعمال الغريزة. وهذا اليقين لا يصلح كذلك إلا إذا كان يقيناً ثابتاً بما هو أكبر من الدنيا فيرجع إليه الإنسان فيتذكر فيُبصر. هناك ميراث من الآخرة للمؤمن، فاليقين بهذا الميراث هو سر الإيمان
والعمل الشيطاني لا يكون إلا في إفساد هذا اليقين ومعارضة الخيال العظيم الذي فيه بالحقائق الصغيرة التي تظهر للمغفل عظيمة كما تشب نار أكبر من قرص الشمس ثم يقال للأبله انظر بعينيك فيصدق أنها أكبر من الشمس