شوكته إلا جربها، حتى السجن أرسله إليه مرارا بواسطة تلك الخطابات الملكية المختومة التي كان لها حكم القانون.
ولكن السجن لم يردعه ولم يصرفه عن الإسراف والاستدانة ولما هم أبوه أن يرسله إليه مرة أخرى فر هارباً مع خليلة كان قد هام بها على الرغم من احتجاج زوجته، وعلى الرغم من حدب بعلها عليه وإكرام مثواه حين كان يزوره في منزله.
وهنالك في هولندا حينما أنفق ما حملته معها خليلته من المال لم يجد له مرتزقاً سوى الكتابة، فوضع رسالة في الحكم الاستبدادي ذاع بها اسمه بين الناس، وأتبعها غيرها في الاقتصاد وكانت له فيها آراء صائبة، غير أن حياة التشريد قد ألقت به في كثير من مواطن الزلل، فكان يستدين مرة ويستجدي بعض ذوي الثراء حيناً، ويلجأ إلى ناشري الكتب أحياناً يعركهم ويعركونه حتى يتقاضاهم بعض المال ثمناً بخساً لرسائله
وما كان ذلك الشقاء ليقهر نفساً لا تقهر، بل لقد أوحى إليه الانتقام من أبيه، فلما علم وهو في غربته بما شجر بينه وبين أمه من نزاع ومقاضاة، كتب رسالة صغيرة يحمل فيها عليه ويرميه بالغباء والجهل في أسلوب لاذع، وأرسل منها عدداً إلى أمه، ولكنها وقعت في يد أبيه، فبلغ الحنق من نفسه كل مبلغ واستعمل نفوذه، فإذا بابنه وخليلته يرسلان إلى فرنسا، حيث ألقيا في السجن كل جزاء فعلته.
وكان السجن في هذه المرة قاسياً إذ حرم عليه أول الأمر كل ما يخفف عنه آلام وحدته، ولكنه استطاع أن يسحر حراسه بقوة شخصه فأتوا له بما طلب من الكتب والورق والصحف، فكان فيها بعض السلوى لنفسه الوثابة
ولقد لبث في السجن بضع سنين، أعاده بعدها أبوه إلى الحياة الطليقة، وهو يظن أن السجن قد نال من كبريائه، ولم يدر أن الأسر قد زاد عوده صلابة، وعلمه كيف يروض نفسه على البأس، وكيف يستهين بالألم إذا فكر أحد في ارغامه، ولذلك عاد إلى التبذير والسفه، ولج في عناد أبيه وسوء معاملة زوجه، ثم اخذ ينشر من الآراء في المال والسياسة ما أغضب عليه كبار رجال الدولة، فهم أبوه أن يلجأ من جديد إلى خطاب مختوم ولكنه هرب وطوف في إنجلترا وبروسيا وسواهما من ممالك القارة وهو لا يكاد يجد ما يتبلغ به.
أكب في أسره على المطالعة، فالتهم ما حمل إليه من الكتب التهاماً، وكانت له مقدرة خارقة