على استيعاب ما يقرأ، ثم هيأت له أسفاره أسباب الخبرة الصحيحة، فصاحب أخلاطاً من الناس، ورافق أنماطاً من الساسة، وشاهد ألواناً من المجتمعات، ومارس ضروباً شتى من الأخلاق والعادات
على أن أصالته كانت أعظم من كسبه كما كان وحي عبقريته أكبر خطراً وأبعد أثراً في تكييف سلوكه من كل ما زودته به الكتب من آراء، ولكن تلك العبقرية كانت في حاجة إلى ما يستثيرها، كانت فيما يحيط به من ظروف العيش، وما يكتنفه من الحوادث كالجمرة طغى عليها الرماد، فما أن تهب العاصفة حتى تظهر وتتوقد وتبهر جذوتها القلوب والأبصار، وما كانت العاصفة إلا الثورة وهي من وطنه على الأبواب.
بيد أنك تراه الآن ولما تواته الثورة يعيش من نفسه في ثورة! فلقد كان بطبعه عسوفاً عنوفاً لا تعرف نفسه الهدوء كما لا يعرف جسمه الدعة، يميل بكل ما في طاقته إلى النضال والتحدي، فيحمي على المجادلة، ويستعر على الجلاد، ولا يستقر إلا على الظفر والتفوق.
وكان قلبه الكبير مليئا بالأحاسيس، جياشاً بالعواطف، وكثيراً ما كانت حدة عاطفته مبعث مواقفه الفذة ومثار شجاعته حين كانت تستحكم الأزمات فلن يخرج الوطن منها إلا بشجاعته. وكان ذا مقدرة غريبة في إثارة العاطفة في قلوب من حوله حتى لكأنهم منه حيال ساحر عجيب، وهو في فورته يتناول كل شيء ولا يكاد يتجه إلى فكرة حتى يثب إلى غيرها، ولا يكاد يسنح له خاطر حتى تتوارد على رأسه الخواطر، وما كان ليضيق بها، بل لقد كانت على وفرتها اقل من أن تقنع روحه أو تشبع عاطفته. قال أبوه يصف توثب روحه:(إن روحه كالمرأة المتحركة ينعكس فيها كل شيء ولا يستقر فيها شيء)
ولقد كان من أظهر خلاله وأعظم قوى نفسه، شدة تأثيره فيمن حوله، يحس من يقترب منه هيبة خفية لا يتبين مبعثها، وينجذب إليه من يستمع له انجذاباً يبعث على العجب! ولقد بلغ من شدة تأثيره أنه كان يحمل رجال السجن على احترامه بل على محبته، وتلك عجيبة من عجائب النفس لا تزال سراً مستغلقا على الإفهام.
على أن أبرز صفاته جميعاً وأوثقها علاقة بمستقبل حياته، هي قوته الخطابية، فلقد كان ميرابو خطيباً عبقرياً بكل ما تتسق له تلك الكلمة من معنى. وهو عند الكثيرين من المؤرخين أقدر خطيب شعبي في التاريخ الحديث، وأشد الخطباء تسلطاً على أفكار سامعيه