كان في أسلوبه رجل فن كأعظم ما يكون رجل الفن، عرف أو على الأصح ألهم اختيار الكلمة القوية وصوغ العبارة التي تجمع إلى إشراق المعنى بعد المرمى وعمق المغزى. وكانت تواتيه عبقريته إذا تسنم المنبر فتسمو به عن مستوى الرجال، فتراهم شاخصة أبصارهم إليه خافقة قلوبهم بما ينطق، فإذا احتدم الجدل أو اشتد الموقف خطراً نظرت فإذا به أعظم مما كان حماسة وأسرع تدفقاً وأكثر إقناعاً ورأيت عبارته ترتفع وتعظم حتى تلائم الموقف، وسمعت في نبرات صوته أزيز نفسه وغليان دمه. كان في جولاته كنابليون في غزواته! تزداد عبقريته ملابسة له كلما ازداد الموقف من حوله هولاً. ولقد فاه بأبلغ عباراته وأبعدها أثراً في نفوس سامعيه في مواقف الحماسة الفائرة كأن كلماته الحيتان الضخمة لن تظهرها إلا العاصفة!
وكان له فضلاً عن ذلك من هيبة منظره وقوة صوته ورنين جرسه وشتى إشاراته كل معدات الخطيب. كان كبير الجرم، قوي الجسم، عريض المنكبين، عظيم الصدر، ترى في وجهه الجاد العابس آثار جراح اندملت كأنك تلمح فيها صرامة الحوادث وصروف الزمن، وكانت ترتسم ملامح وجهه بانفعالات نفسه، كما كانت تلتمع عيناه وتختلجان فتبعثان الرهبة أو تثيران الشفقة. أما عن قوة أعصابه وضبط نفسه وصدق فراسته وتفهم الغاية التي يرمي إليها وتخير أقرب الطرق وأسهلها إلى تلك الغاية فكان في ذلك كله مضرب المثل بين معاصريه.
والآن فلندع مقدرته على الخطابة حتى نشاهد آثارها في مجلس طبقات الأمة وفي الجمعية الأهلية، ويجمل بنا أن نتبين قبل انعقادها بعض آرائه السياسية.
لم تك أصالة ذلك الرجل الفذ في الساسة أقل من أصالته في الخطابة، فلقد جمع إلى حماسة القلب حدة العقل، وإلى ثورة العاطفة اتزان المنطق، وإلى جموح الخيال وضوح المنهج، وإلى وحي العبقرية شمول النظر، وصدق التجربة واتساع الخبرة، وإن المرء ليدهش حقاً إذ يرى ذلك كله في رجل. ولقد صدق جوته حين وصفه في قوله: ميرابو. . . تلك الأعجوبة!!!
كان لهذا الزعيم غرض يرمي إليه ونهج يسير عليه. نشط قبيل الثورة في نشر مبادئه،