وسبب ذلك على ما يظهر أن الشعر لغة العواطف والنثر لغة العقل، والمشاعر والعواطف قليلة التغير بطيئة الرقي، وما حدث فيها من تغير فأكثره تغير في الشكل لا في الموضوع، أما العقل فراق أبدا وثاب في الرقيّْ ومظهر ذلك الرقي العلمي الذي نحسه من سنة إلى أخرى. ولأن الشعر تعبير شخصي وأعني بذلك أن الشاعر يعرض علينا في شعره مشاعره ونظراته إلى الحياة وإحساسه بها أما الناثر فعالمي إنساني يعرض الشيء كما هو لا كما يرى. تحس في الشعر دائما بالشاعر يحدثك عن نفسه وتحس في النثر بعقل يخاطب عقلك، وان شعرت بالناثر فمن وراء حجاب ومن أجل هذا خضع النثر للمنطق ولم يخضع له الشعر، ترى في الشعر غالبا مبالغة لا يرضاها المنطق وتناقضا لا يقره المنطق وتحكما في الحكم لا يؤيده المنطق، وتخبطا وهراء يغتفرهما العقل في الشعر ولا يغتفرهما في النثر. وهذه الظاهرة وهي سير النثر إلى الأمام في سرعة وقفز وسير الشعر في بطء وتمهل هي التي جعلتنا نتذوق الشعر العربي في العصر العباسي وما بعده أكثر مما نتذوق النثر في ذلك العصر، لأن الصلة بين نثرنا والنثر القديم صلة ضعيفة قد خالفناها كل المخالفة ولم يبق منها إلا أساس التركيب الذي تقتضيه طبيعة اللغة، بل أن مسافة الخلف بين نثرنا والنثر من عشرين سنة بعيدة كل البعد، وعلى العكس من ذلك الشعر فالفرق بين الشعر القديم والحديث قليل تافه، ومع هذا فالشعر يجب أن يخضع لسنة النشوء والارتقاء ويجب أن يتقدم ويجاري الزمان كما حدث في الشعر الغربي. يجب أن يتقدم الشعر في كل من عنصريه عنصر الوزن وعنصر المعنى، ففي الوزن نرى إن العرب في الجاهلية صبت شعرها في ستة عشر بحرا وكان خضوعها لهذه البحور لا لأنها حصرت كل ما يمكن أن يكون ولكن ابتكروا أولاً بحرا أو بحرين ثم جاء الخلف فزادوا هذه البحور شيئا فشيئا لا يهديهم في الابتكار إلا الأذن الموسيقية: وهم لا عيب عليهم في ذلك ولكن العيب عيب من أتى بعدهم فقد سوّا هذه البحور ولم يشاءوا أن يخرجوا عنها قيد شعرة وقد تحكم العلماء والأدباء في أذواق الناس فأبوا عليهم أن يقولوا في غيرها أو أن يشذوا ولو قليلا عنها. وهو تقديس في غير محله لأن أوزان الشعر كما قلنا هي موسيقاه، وكما تطورت الموسيقى في العصور واخترعت نغمات وولد من القديم نغمات جديدة، وكانت موسيقى العصر العباسي غير موسيقى العصر الأموي، وهما غير موسيقى الجاهلية، كان واجبا أن