أنقذنا!) فلبى نداءهم وأنقذهم؛ هذا الرجل الذي لم يكن طبيباً يوماً ما؛ هذا الرجل الذي كان يقول في سخرية يمازجها العُجْب:(هل أنا إلا كيميائي؟). نعم أنقذهم رجل العلم هذا الذي قضى حياته ينازع الأطباء ويخاصمهم خصاماً مرّاً؛ أنقذهم بأن حقنهم بتلك الأربع عشرة حقنة من مكروبه المجهول المضعَف بعضَ الإضعاف؛ تلك الأربع عشرة المعقّدة التي لم يستسغها عقل أو يألفها منطق: حَقَن تلك الأربع عشرة فيهم ثم ردّهم بعدها مُعافين إلى أركان الأرض الأربعة
وجاءه من روسيا من بلدة سملنسك تسعة عشر فلاحا من الموجيك عضهم ذئب مسعور قبل ذلك بتسعة عشر يوماً. وجرح الذئب خمسة منهم جروحاً بالغة فعجزوا عن السير فلم يكن بد من إرسالهم إلى المستشفى الكبير. وكان منظر هؤلاء الروس غريبا في طواقي الفرو فوق رؤوسهم وهم ينادون:(بستور! بستور!) وهي الكلمة الوحيدة التي عرفوها من لغة البلد الذي حلّوا فيه
وثارت ثائرة باريس - على نحوٍ لا يعرفه إلا باريس - قلقاً على هؤلاء المنكوبين الذين لا مفرّ لهم من الموت بعد أن طال الزمن عليهم مذ عضهم الذئب بنابه. وتحدّثت باريس فلم يكن لها غير هذا من حديث. وقام بستور ورجاله بحقن الألقحة في هؤلاء المناكيد الذين نضب حظهم من الحياة وقل رجاؤهم فيها. فالعشرة كان يعضهم الذئب فيموت منهم على المعروف ثمانية، فكان على هذا الحساب لابد أن يموت من أصحابنا خمسة عشر
قال الناس حيثما اجتمعوا:(من الجائز أن يموتوا جميعاً فلا ينجو منهم أحد؛ فقد مضى على عضهم أسبوعان وزيادة. مساكين والله! وستظهر عليهم أعراض الداء، وستكون شديدة فظيعة. ضاع الرجاء فيهم وحُمّ القضاء!)
ولعل الناس صدقوا فيما قالوا! ولعلهم حقا جاءوا بعد فوات الأوان! وعزّ على بستور الطعام، وعزّ عليه النوم، فأنه خاطر فأمر رجاله فحقنوا الألقحة الأربع عشرة في هؤلاء التعساء صباح مساء ليقتصدوا نصف الأيام الضائعة عسى أن يلحقوا بالداء فينفع الدواء
وأخيراً صاح بستور صيحة الفخر العالية، وصاحت باريس وفرنسا والدنيا أجمع صيحة الشكر، وأنشدت أنشودة النصر حارّة داوية. فاللقاح أنجى الفلاحين الروس إلا ثلاثة. فعاد الناجحون إلى بلادهم فاستقبلهم بذلك السرور الرهيب الذي تجده القلوب إذا هي دُعيت