وقد كان سبب ذلك الهمود والموت الأدبي في جميع الحالات واحداً لم يتغير ولم يتأثر بتطورات الزمن. فكأن هذا النبات لم يخرج من هذه الأرض، وكأن في طبيعة كليهما ما ينفره من الآخر
فما هي علة هذه الرجعية؟
جناية السياسة والصحافة على الأدب
لست أقصد بالسياسة العمل السياسي، فان ذلك خارج عن بحثي كما أنه خارج عن صلاحيتي! وإنما أقصد أولئك الأشخاص الذين بدءوا حياتهم أدباء ثم انقلبوا سياسيين، ومقدار ما في هذا العمل من الجناية على الأدب! وبعبارة أدل: أولئك الأشخاص ذوي الأطماع السياسية الذين لم تمكنهم شخصياتهم من الخوض في غمار السياسة رأسا، فقدموا لأطماعهم بالاشتغال في الأدب واضعين تلك الغاية نصب أعينهم، فلما ظهرت أسماؤهم على الأفواه تركوا الأدب وانصرفوا إلى السياسة!
هؤلاء أساءوا إلى الأدب أولاً وإلى السياسة ثانياً. . . أساءوا إلى الأدب لأنهم لم يخصوه بنشاطهم ورغبتهم وإنما جعلوه مطية لأطماعهم، وأساءوا إلى السياسة لأنهم جعلوا فيها هذه السابقة
ومن هنا يتبين السبب في تلك النهضة التي حسبنها (أصلية) وما كانت في الحقيقة إلا وسيلة بعض المرتزقين من حملة القلم؛ ولو رجعنا إلى الأسماء التي كانت تذيل بها قصائد الصحف والمجلات قبل عشر سنين، ومقالات ذلك العهد ومحاضراته، لوجدناها من أضخم الأسماء وأعلاها في عالم الوظيفة والسياسة الآن
وقد جرى ذلك على الصحف اليومية، فإن كل صحيفة صدرت في العراق كانت في مبدأ أمرها خالصة لوجه الأدب أو تخصه بأكبر عناية، فأصبحت كل الصحف تقريباً لا تنشر القطعة الأدبية أو القطعة الشعرية إلا في الأسبوع أو الأسبوعين مرة!
وقد كانت جريدة (البلاد) - وهي كبرى جرائد العاصمة - في أول مبدئها تخص (الأدب) بثلث صفحاتها يومياً، وكانت تستكتب الأدباء والشعراء وتنشر لهم وتدعو لأدبهم، وكانت وقتذاك تصدر في ست صفحات فقط، والآن بعد أن زيدت صفحاتها إلى ثمان فقد تركت الأدب مرة واحدة، ولم تعد تنشر شيئاً منه إلا في بعض المناسبات القاهرة