وغدا الحجاز ينعم بأمن وعافية مما ابتليت به الأمصار الأخرى ولا سيما العراق من الفتن والقلاقل، ولذلك أخذت فلول ثوار العراق والخوارج تفد على الحجاز فراراً من وجه الحجاج وسيفه المسلول، فكان بن عبد العزيز يجيرهم ويحميهم. ثم لم يكتف بذلك فكتب إلى الخليفة يندد بعسف الحجاج وبطشه. فاضطغنها الحجاج عليه وكتب إلى الخليفة يشكو من أن أمير المدينة يجير (مراق) العراق وان ذلك موهن له. وقد نظر الخليفة في الأمر ملياً، ثم رأى أن يشدُّ أزر الحجاج في هذه الخصومة، فالعراق أخطر من الحجاز والحجاج أولى بالمصانعة من عمر بن عبد العزيز، فصرف عمر عن الحجاز بأميرين أحدهما للمدينة والآخر لمكة. فكان أول ما صنعاه أن أخرجا من الحجاز إلى الحجاج كل عراقي في الجوامع والأغلال، وتوعدا كل حجازي أنزل عراقيا أو آجره داراً.
خرج ابن عبد العزيز من الحجاز إلى الشام مغاضبا للخليفة الوليد، وقد ساءه أن عزل عن إمارة المدينة حتى قال لمولاه مزاحم وهو ببعض الطريق:(أخشى أن أكون ممن تنفيه المدينة) إشارة إلى الحديث الوارد في أن المدينة تنفي خبثها. فلما حصل بالشام شغل نفسه بالغزو فراراً من وجه الوليد والتماس الأجر والسلوى. فلما توفي الوليد عام ٩٦ هـ وولي سليمان بن عبد الملك لزمه عمر، وكان أثيراً عنده يستشيره سليمان وينزل على رأيه في كثير من الأمور، على إن عمر نفعه أن عزل عن الإمارة على النحو المتقدم فقد دفعه ذلك في السنوات الست التي قضاها بالشام قبل أن يستخلف (٩٣ - ٩٩) إلى النظر في حال الدولة العربية في أواخر القرن الأول الهجري.
نظر فإذا الدولة الإسلامية قد أبعدت في التخلي عن الصفة الدينية التي كانت لها قديما وأسرفت في الاصطباغ بالصبغة الزمنية المتطرفة، أليست حكومة عبد الملك والوليد والحجاج ويزيد بن المهلب حكومة تجبر وطغيان؟ أليست حكومة سليمان حكومة الشهوة العطشى والجسد المنهوم؟ لقد أصبح السلطان يعتمد في شد أركانه وتقوية دعائمه على القوة الغشوم والسيف المرهف. أما العدل وأما الرفق وأما الرحمة فلم يعد لكل ذلك عنده محل ولا حساب. ونظر فإذا أموال الدولة قد عراها الخلل والاضطراب من كل نواحيها. فنحو ثلث أموال الدولة قد استحال ملكا خاصا لبني أمية وأكثر الضرائب يجبى من غير وجوهه،