للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تلك المؤلفات لثقافتنا وصلاحيتها لتغذية إلهاماتنا. ويحتاج بحث هذه المؤلفات إلى كتاب مفصل. ولكني سأقصر بحثي على وصف رسالة الجاحظ الموسومة (بالتربيع والتدوير) وهذه الرسالة أعتقد أنها تكفي لرسم صورة تامة عن أدب الجاحظ وأسلوبه الرصين المونق ومعانيه البليغة وميله إلى خلط الجد بالهزل في كتاباته. وهذه الرسالة مدبجة في احمد بن عبد الوهاب من معاصري الجاحظ ومن ذوي النفوذ والمقربين لدى الخلفاء، وهي تمثل في أوضح بيان جمال الرصف والقدرة على ملكية العبارة. ومن المستحسن أن أصف هذه الرسالة وآتي بفقر منها: ابتدأ الجاحظ الرسالة بالقدح في احمد والزراية بعقله، وطرح عليه مائة سؤال منها الخفيف ومنها الثقيل ومنها الجدي ومنها المضحك حتى إذا ما آذاه وجرحه جرحا يكاد يقطر دما وأدرك فداحة ما صنع أسرع إلى قلمه فمسحه من الدم ودهنه بالمرهم ليأسو الجرح ويداوي ما بضع سنان القلم، فاخذ يقدم وجه العذر ويدير اليراع بالمغفرة ويزكي صفات احمد ويطنب في مدحه ويسرف. فها هو ذا يسم أحمد في مفتتح الرسالة بالادعاء وينعته بالجهل يقول: (كان احمد بن عبد الوهاب مفرط القصر ويدعي أنه مفرط الطول وكان جعد الأطراف قصير الأصابع وهو يدعي البساطة والرشاقة، وكان كبير السن متقادم الميلاد وهو يدعي انه معتدل الشباب حديث الميلاد. وكان ادعاؤه لأصناف العلم قدر جهله بها، وتكلفه للإبانة عنها على قدر غباوته فيها. . . وكان قليل السماع غمرا. . . يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها ويحسد العلماء من غير أن يتعلق فيهم بسبب).

واستطرد يقول بعد كلام طويل فصيح: (فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود منا وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رأيت أن أكشف قناعه وأبدى صفحته للحاضر والبادئ وسكان كل ثغر وكل مصر بان أسأله عن مائة مسألة أهزأ به فيها وأعرف الناس مقدار جهله).

وأخذ يلقي عليه الاسئلة في خلال الرسالة ومنها قوله: (خبرني ما تقول في الفراسة؟ وما تقول في أسرار الكف؟ وما تقول في النظر في الأكتاف! وخبرني متى تستغني الحية عن الغذاء! ومتى ينتفع الضب بالنسيم! وخبرني ما السحر وما الطلسم وما الدنهش! وما قولهم في اللبان الذكر!؟).

وبعد أن سقاه سخراً وأشبعه تهكما وجعله ضحكة الضاحكين وهزأة الساخرين انبرى يشدو بذكره ويتغنى بمدحه مما يجعلنا نعجب من الجاحظ ومن تناقضه الظاهر ومن انقطاع

<<  <  ج:
ص:  >  >>