للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الملابسة المنطقية بين هجو الفارط المفرط ومدحه اللاحق المفرط. استمع إليه يقول في مدح أحمد: (وهل على ظهر الأرض جميل حسيب أو عالم أديب إلا وظلك أكبر من شخصه وظنك أكثر من علمه، واسمك أفضل من مغناه، وحلمك أثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه!). . . ثم تأخذه الأنفة وتغطيه العزة فيتسامى على أحمد بالمعرفة ويتفاضل بالحكمة. يقول: ـ فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم والأخبار أني أشد منك عقلا، واظهر منك حزما والطف كيدا وأكثر علما وأوزن حلما وأخف روحا وأكرم عينا. . . وأنت رجل تشدو من العلم وتنفق من الأخبار، وتموه نفسك وتعز من قدَّرك وتتهيأ بالثياب وتتنبل بالمراكب). . . وأخيرا يحس الجاحظ شدة ما ساقه من الذنب إليه فيعمد إلى تلطيفه ببيانه الساحر الجذاب فيقول: (فان أنت عاقبتني فقد رغبت عن النبل والبهاء، وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظا أو يداوي حقداً أو يظهر القدرة أو يحب أن يذكر بالصولة. ويشفع هذا بكلام يتنفس الملق والدهان يقول: (وأني لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله؟ وهل عندك إلا ما في طبعك؟ وكيف لك بخلاف عادتك؟).

وأكتفي بهذا الاقتباس الطويل الذي تعمدت أطالته لإثارة القارئ لتلاوة هذه الرسالة برمتها ليتذوق جمالها الفني وحلاوة عباراتها وعذوبة مائها، وهذه الرسالة عندي لا تمثل الجمال الفني للعبارة بل أنها تمثل جمال المعنى وبلاغته. وللجاحظ رسائل أخر شائقة متقدمة في الفصاحة متناهية في الرصانة والسلاسة والجزالة وهي آية قائمة على تفوق الرجل في أدب المقال وإحسانه فيه أقصى إحسان. والمجال يطول بذكر شيء عن هذه الرسائل ونسرد أسماء بعضها ليدرك القارئ كيف تنبه الجاحظ منذ قرون لمعالجة موضوعات تهز العواطف والمشاعر والانفعالات. فرسالة البخلاء تحوي قصصا غريبة عن بخلاء عصره وعاداتهم، ورسالة الحاسد والمحسود تهجن الحاسد وتذم انفعال الحسد. ورسالة (العشق والنساء) تصف عاطفة العشق وكيف يخنع لها الجبابرة وكيف خنع لها الحجاج الطاغية. وكتابه (المحاسن والأضداد) تناول فيه ذكر محاسن كثيرة من العواطف الفردية مثل عواطف الصدق والعفو والمودة والوفاء والشجاعة والسخاء وحب الوطن؛ ومدح فيه انفعال الغيرة وذمه في صفحات معدودة. وهذا الكتاب لا تظهر فيه شخصية الجاحظ الخلاقة لأن

<<  <  ج:
ص:  >  >>