والفقيهُ الذي يتعلق بالمال وشهوات النفس ولا يجعل همَّه إلا زيادة الرزق وحظ الدنيا - هو الفقيه الفاسدُ الصورة في خيال الناسُ يفهمهم أولَ شيء ألاَّ يفهموا عنه إذ حرصه فوق بصيرته، وله في النفوس رائحةُ الخبز وله معنى خمسٌ وخمس عشرة. . . وكأن دنياه وضعت فيه شيئاً فاسداً غريباً يفسد الحقيقة التي يتكلم بها؛ ولست أدري ما هو هذا الشيء ولكني رأيت فقهاء يعظون ويتكلمون على الناس في الحرام والحلال وفي نص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم لم أجد لكلامهم نفعاً ولا رداً، إذ يلهمون الناس بأرواحهم غير المعنى الذي يتكلمون فيه؛ وتسخر الحقيقة منهم - على خطرهم وجلال شأنهم - بذات الأسلوب الذي تسخر به من لص يعظ لصاً آخر فيقول له لا تسرق. . .
قال ابن مسكين: فلما دار يوم السبت أقبل الناس على المسجد أفواجاً، وكانوا قد تعالموا إزماعي الرحيل عن بلدهم - وجاء (لقمان الأمة) في أشياعه وأصحابه، وجاء أبو اسحق المفتي في جماعته؛ واستقر بي المجلس فنفذْتُ الناسَ بنظري فكأنهم نبات غطى الأرض، فأذكرني هذا شيخنا السريَّ بنَ مُغلَّس السقَطي، وكان قد لزم داره في بغداد لا يخرج منها ولا يراه إلا من قصد إليه، وهممتُ أن أجعل الموعظة في شرح كلمته المشهورة: لا تصحُّ المحبة بين اثنين حتى يقولَ أحدهما للآخر: يا أنا. وما نقلوا عنه من أنه قال مرة لبعض أصحابه: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي (الحمد لله). فقال صاحبه: وكيف ذلك؟ قال: وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجلٌ فقال: نجا حانوتك. فقلت الحمد لله؛ فأنا نادم من ذلك الوقت على ما قلت إذ أردتُ لنفسي خيراً من الناس. قال ابن مسكين: ولكني أحببت أن أكلم المفتي ومالَ المفتي؛ فحدثتهم حديث معرفتي بالسّري أني سمعتُ يوماً غيْلان الخياط يقول: إن السري كان اشترى كُرّ لوز بستين ديناراً وأثبته في رزنامجه وكتب أمامه: ربحه ثلاثة دنانير؛ فلم يلبث أن غلا السعر فبلغ تسعين ديناراً؛ فأتاه الدلال الذي كان اشترى له فقال: أريد ذلك اللوز. قال الشيخ: خذه. قال: بكم؟ فقال بثلاثة وستين ديناراً. وكان الدلال رجلاً صالحاً فقال للشيخ: إن اللوز قد سار الكُر بتسعين. فقال السري: ولكني عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحلُّه، فلست أبيع إلا بثلاثة وستين ديناراً. فقال الدلال: وأنا عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله ألاّ أغشَّ مسلماً، فلست أشتري منك إلا بتسعين؛ فلا الدلال اشترى منه والسريُّ باعه