قال أحمد بن مسكين: فلما سمعت ذلك لم تكن لي همةٌ إلا أن ألقى الشيخ وآخذ عنه، فلم أُعرَّج على شيء حتى كنت في المسجد الذي يصلي فيه فأجده في حَلْقته وعنده ممن كنت أعرفهم: عبدُ الله بن أحمد بن حنبل وإدريس الحداد وعلي بن سعيد الرازي، وحوله خلق كثير وهو فيهم كالشجرة الخضراء بين الهشيم تعلوه نَضْرةُ روحه وكأنما يُمدُّه بالنور عِرق من السماء فهو يتلألأ للعين؛ ولا يملك الناظر إليه أن يحس في ذات نفسه أنه الأدنى من رؤيته في ذات نفسه أن هذا هو الإنسان الأعلى
ورأيت على وجهه آلاماً تمسحه مسحةَ الأشواق لا مسحة الآلام، فهي آثارُ ما يجده في روحه القوية، لا كآلام الناس التي هي آثار الحرمان في أروحهم الواهنة الضعيفة فلا تمسح وجوههم إلا مسحة الغم والكآبة. وما يخطئ النظر في تمييز آلام السماء على هذه الوجوه السعيدة من آلام الأرض في الوجوه الأخرى فأن الأولى تتندَّى على روح الناظر بمثل الطّل إذا قطَّره الفجر، والأخرى تتَثَوّرُ كما تَهيج الغَبرةُ إذا ضربت الريحُ الأرض
كان الشيخ في وجود فوق وجودنا فلا تتلون له الأشياء ولا تعدو عنده ما هي في نفسها، ولا يحمل الشيء له إلا معناه من حيث يصلح أو لا يصلح، ومن حيث ينبغي أو لا ينبغي. فإنما تتلون الأشياء عندما يضع الشيطانُ عينَه في عين الناظر إليها؛ وإنما تزيد وتنقص في القلب عندما يكون روح الشيطان في القلب؛ وإنما يشتبه ما ينبغي وما لا ينبغي عندما يأتي الشيء من جهتين: جهته من طبيعته هو، وجهته من طبيعتنا نحن. وبهذا قد يجمع الإنسان المال ثم لا يجد في المال معنى الغنى، وقد تتفق أسباب النعيم ولا يكون منها إلا الذل. وكم من إنسان يجد وكأنه لم يجد إلا عكس ما كان يبغي، وآخرَ لم يجد شيئاً ووجد بذلك راحته.
قال ابن مسكين: وما كان أشدّ عجبي حين تكلم الشيخ فقد أخذ يجيب على ما في نفسي ولم أسأله كأن الذي في فكري قد انتقل إليه؛ فروى الحديث: إذا عظَّمتْ أمتي الدينارَ والدرهم نُزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر حُرموا بَركةَ الوحي. ثم قال في تأويله:
إن ملك الوحي ينزل بالأمر والنهي ليخضع صولةَ الأرض بصولة السماء، فإذا بقي الأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر بقي عملُ الوحي إلا أنه في صورة العقل، وبقيت روحانية الدنيا إلا أنها في صورة النظام، وكان مع كل خطأ تصحيحُه فيصبح الإنسان بذلك تنفيذاً