للشريعة بين آمرٍ مطاع ومأمور مطيع، فيتعامل الناس على حالة تجعل بعضَهم أستاذا لبعض، وشيئاً منهم تعديلا لشيء، وقوة سندا لقوة؛ فيقوم العزمُ في وجه التهاون، والشدة في وجه التراخي، والقدرة في وجه العجز. وبهذا يكونون شركاءَ متعاونين، وتعود صفاتهم الإنسانية وكأنها جيشٌ عامل يناصر بعضه بعضا فتكون الحياة مفسرةً مادامت معانيها الساميةُ تأمر أمرها وتلهم إلهاَمها ومادامت ممثَّلة في الواجب النافذ على الكل
والناس أحرار متى حكمتهم هذه المعاني فليست حقيقة الحرية الإنسانية إلا الخضوع للواجب الذي يحكم، وبذلك لا بغيره يتصل ما بين الملك والسُّوقة وما بين الأغنياء والفقراء اتصالَ الرحمة في كل شيء واتصالَ القسوة في التأديب وحده. فبركة الوحي إنما هي جعل القوة الإنسانية عملا شرعيا لا غير
أما تعظيم الأمة للدينار والدرهم فهو استعباد المعاني الحيوانية في الناس بعضِها لبعض، وتقطُّعُ ما بينهم من التشابك في لحُمة الإنسانية، وجعل الكبير فيهم كبيرا وإن صغرت معانيه والصغير فيهم وإن كبر في المعاني؛ وبهذا تموج الحياة بعضها في بعض ولا يستقيم الناسُ على رأي صحيح، إذ يكون الصحيح والفاسد في ملك الإنسان لا في عمل الإنسان، فيكنز الغني مالا ويكنز الفقير عداوة كأن هذا قتل مالَ هذا وكأن أعمالا قتلت أعمالا، وترجع الصفاتُ الإنسانية متعادية وتباع الفضائل وتشترى، ويزيد من يزيد ولكن في القسوة، وينقص من ينقص ولكن في الحرية، وتكون المنفعة الذاتية هي التي تأمر في الجميع وتنهي، ويدخل الكذبُ في كل شيء حتى في النظر إلى المال فيرى كل إنسان كأنما درهمهُ وديناره أكبر قيمة من دينار الآخر ودرهمه فإذا أعطي نقص فغش، وإذا أخذ زاد فسرق؛ وتصبح النفوس نفوساً تجارية تساوم قبل أن تنبعث لفضيلة وتُماكِسُ إذا دُعيت لأداء حق، ويتعامل الناس في الشرف على أصول من المعِدة لا من الروح، فلا يقال حينئذ إن رغيفين أكثر من رغيف واحد كما هي طبيعة العدد، بل يقال إن رغيفين أشرفُ من رغيف كما هي طبيعة النفاق
أما التجارة وهي التفسير الظاهر لمعاني النفوس فتصبح بين الغش والضرر والمماكرة، وتكون يقظة التاجر من غفلة الشاري وتفسد الإرادة فلا تحدث إلا آثارها الزائغة. وما التاجر في الأمة القوية إلا أستاذ لتعليم الصدق والخلق في الموضع المتقلب فكلمته كالرقم