الوحدات البسيطة التركيب ينتج حياً عويص التركيب معقد التكوين جهد ما نتخيل. ذلك في حين أن الكائن الاجتماعي إنما هو كلٌ بسيط التكوين يتركب من وحدات غاية التعقيد وعلى معرفتك هذا الفرق الوظيفي، يتوقف وصولك إلى النتائج الصحيحة. فالخلايا لا قوام لها ولا حياة بغير اندماجها في بينية الكل الحي. أما الوحدات (الذوات العاقلة) التي يتركب منها الكائن الاجتماعي، فكلما كانت أكثر استقلالا عن ذلك الكائن برز أثرها وتميزت وظيفتها واستبانت قيمتها ورجل فرعها وأصبحت قوة قادرة على التأثير في الكائن الاجتماعي بما يحفظ عليه حياته الاجتماعية ويحركه نحو الرقي الاجتماعي ويبث فيه روح التطلع إلى الارتقاء المدني، وبالجملة على جعله كائناً اجتماعياً معتزاً بأثره العملي في الحياة ذلك على الضد مما لو اندمجت هذه الوحدات العاقلة في بنية الكائن الاجتماعي. فإنها إذ ذاك تفقد استقلالها وقوتها على التأثير بالعمل على رقي الجماعة، لأن اندماجها هذا إنما يسلبها القدرة على التفكير والتأمل في حقائق الأشياء، ويفقدها أخلاقها الشخصية، وبوجه عام يدمجها في ما يسميه الاجتماعيون (عقلية الجماهير)
هذه حقيقة أولية، على ما فيها من تعقيد وحاجة إلى فهم، من الضروري أن نعيها وأن نجعلها نصب أعيننا كلما فكرنا في وظيفة التعليم باعتباره عاملاً من عوامل استقرار الحالات الاجتماعية في كل أمة من الأمم. أما وقد وعيناها فإنا نتساءل: أيفي التعليم عندنا بإخراج رجال فيهم من الاستقلال الخلقي والعلمي ما يجعلهم في المستقبل قوى مؤثرة في الكائن الاجتماعي، أم على العكس من ذلك يخرج رجالاً قُسّعاً يكتفون من الحياة بالاندماج في جسم الكائن الاجتماعي، فيظلون طوال أعمارهم مغمورين في عقلية الجماهير؟ وإني لآسف إذ أقول إن تعليمنا بعيد عن أن يخرج رجالاً مستقلين على النمط الذي تتطلبه طبيعة الحالات الاجتماعية الجديدة التي أخذت تشعرنا بانا مقدمون على انقلابات فكرية خطيرة.
إذن فواجب التعليم ينبغي أن ينحصر في إخراج رجال مستقلين بعيدين عن التأثر بروح الجماهير. وتكوين استقلال الفرد يجب أن يكون بداءة التعليم ونهايته. أما العمل على شحن العقول بشتى المعلومات العلمية وتكوين ملكات خاصة في الأدب والفن، فلن يكون لها من أثر في الحياة، ولن تقوم من عوج الكائن الاجتماعي ما لم يسبقها الاستقلال الذاتي وتدريب الملكات الخاصة على مماشاة ما تتطلبه مقتضيات ذلك الاستقلال