ولقد أظهرنا في المقال السابق أن ابن الفلاح أكثر استقلالا من الناحية العملية من المتعلم الذي فقد استقلاله الذاتي بحكم الظروف التي نشأ محاطاً بها. غير أن استقلال الفلاح العامل استقلال ناقص، إذ هو استقلال أشبه بالاستقلال الحيواني منه بالاستقلال الإنساني، ذلك بأن عدته في هذا الاستقلال تقوم على قوة عضلاته وعلى صبره واحتماله ورضاه بمحيطه الذي يعيش مكتنفاً به. وعامة ذا ليس فيه شيء من مؤهلات الاستقلال الإنساني، وإنما هو استقلال يشارك فيه الفلاح كثيراً من الحيوانات. وعلى ذلك نجد أن ما عندنا من مكملات الاستقلال الفردي عند الفلاح تنقصه الناحية الثقافية التي تمكنه من أن يصبح ذا أثر عملي في تكييف حالات الكائن الاجتماعي. ولكن هذا الاستقلال مهما كان فيه من ضروب النقص فهو استقلال على كل حال. أما المتعلم المتعطل فحالته تناقض هذه الحال. فان تعليمه لم يمكنه من أن يكون مستقلا من ناحية الثقافة، في حين أن نشأته ومحيطه قد سلباه ناحية الاستقلال الأخرى
أما الأسلوب الذي يجب أن يتنحى في التعليم حتى يكون أداة صالحة لتخريج رجال مستقلين ذوي أثر في تكييف حالات الكائن الاجتماعي، فسنفرد له بحثاً خاصاً. وسنقصر كلامنا الآن على المخاطر التي يتعرض لها كياننا الاجتماعي من وجود فلاحين استقلوا حيوانياً، ومتعلمين فقدوا كل ضروب الاستقلال
على الرغم من أن الأخطار التي يتعرض لها مجتمع تناحرت عليه كل هذه الظواهر كثيرة متعددة، فأن أعظم هذه الأخطار وأشدها أثراً في مستقبله، إنما ينحصر في حدوث ما يدعوه الاجتماعيون (التطفل الاجتماعي). والتطفل الاجتماعي حالة ترهق فيها طبقات غير عاملة طبقات عاملة بمطلوبات حياتها. ولهذا التطفل مظاهر عديدة أخبثها أن تكون الطبقة المتطفلة هي بذاتها صاحبة السلطة العليا في المجتمع، كما حدث في أوروبا في خلال القرون الوسطى، وكما هي الحال في كثير من ممالك الشرق في حالته الحاضرة. والويل لمجتمع تسود فيه هذه الحال
التطفل حالة طبيعية لا سبيل إلى نكرانها. فهنالك حيوانات تتطفل على نباتات، ونباتات تتطفل على حيوانات. وقد يتطفل حيوان على حيوان، أو نبات على نبات. فهو ظاهرة تكاد تشتمل كل نواحي العالم الحي، وتحتكم في الكثير من مظاهره الجلي. غير أن نظرة واحدة