يجرّها حصان، فطار الفزع بألبابنا، وفررنا نحسب أن الجن تسيرها، ثم سمعناهم يدعوننا، ورأينا ضباطاً تلمع الأوسمة على صدورهم والسيوف على جنوبهم، فأمرونا أن نلقي الأحجار فيك أيتها الساقية ليمر عليها (الأطنبير) فأطعنا وفعلنا مكرهين؟ ومن كان يستطيع أن يخالف أمر ضابط من ضباط جمال باشا؟. . . فلما مرت هرعنا إلى دورنا نخبر أهلنا أن عربة تمشي من غير أن يجرها حصان. . . فتنبري لي عمتي، وتكذبني وتسبني:
- أخرس يا كلب، يا كذاب. . . إن هذا مستحيل
ولكن عمتي التي أبت أن تصدق أن في الدنيا سيارة تمشي بنفسها، قد عاشت حتى رأت الكهرباء. . . . والتلفون. . . . والراديو. . . . ورأت الدبابة والمصفحة والمتراليوز. . . ثم رأت أثر الحضارة في أنقاض دمشق. . . فصارت متهيئة لتصدق كل شيء!
وهل تذكرين كيف عدنا إليك أيتها الساقية فإذا أنت حردة غضبى، قد وقفت عن سيرك، وضللت طريقك، فتطلعت إلى اليمين والشمال، والأحجار قائمة تسد عليك سبيلك فعالجناك واعتذرنا إليك، وطيبنا قلبك، وفسحنا لك السبيل، فجريت مضطربة، متغيرة الوجه، تبكين أيامك الماضية، وتخافين ما يأتي به الزمان؟
وهل تذكرين يوم كنا حولك ونحن آمنون مطمئنون، فإذا الأرض قد ارتجت، وإذا الجيش التركي الذي كنا نخافه ونخشاه قد ذلّ بعد عزّ، وضعف بعد قوة، وفر متفرقاً حائراً لا يدري أين يقصد، ومن ورائه العرب والإنكليز، يدخلون الشام ظافرين، فسررنا وفرحنا، وصفّقنا وهتفنا. ولكنك جريت واجمة حزينة، لأن حياتك الطويلة وما رأيت من دولة الدول، وهلاك الملوك، علمتك أن من يؤمن لمن يتبع دينه، كمن يدخل النار ويرجو ألا تحرقه؟ ثم حققت الأيام ظنك، وصدقت حدسك، فقلنا: يا ليت! (وهل تنفع شيئاً ليت؟!)
وهل تذكرين يوم كنا جالسين إليك، وحولنا هذه الحقول تمتد آمنة إلى ما لا يدركه البصر، وإذا بعدو جبار، يأتي من وراء الحقول الآمنة، فيشقها شقاً منكراً، ويثغر فيها ثغرة هائلة حتى إذا بلغك ألقى عليك نظرة ازدراء واحتقار، ثم سار في طريقه حتى بلغ سفح الجبل، فتمطى ثم تمدد ثم نام نومة الأبد؛ وإن رأسه لفي الصالحية، وإن رجليه لفي حيّ النصارى. . . فلما رآه أحبابك وأصحابك آثروه عليك، فلم يعد أحد يستطيب الجلوس إلى ساقية صغيرة، بعد أن فتح (شارع بغداد) ليجول فيه الشبان كل يوم (بين حي النصارى