للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هذا الأندلسي القصي إلى وقتنا هذا من فرسان الْفَنَّين، وأئمة النوعين، قوم هم ما هم طيبَ مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقّق، لعب الدجن بجفون المؤرق، وجدّوا بفنون السِحْر المنمّق، جد الأعشى ببنات المحلق، فصبوا على قوالب النجوم، غرائب المنثور والمنظوم، وباهوا غرر الضحى والأصائل، بعجائب الأشعار والرسائل، نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولاه حكمه، ونظم لو سمعه كثّيّر ما نسب ولا مدح، وتتبعه جَرول ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق، أبوا إلا متابعة أهل الشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طنّ بأقصى الشام والعراق ذباب، لحنوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتاباً محكما، وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، مرمى القصيه، ومناخ الرديه، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذْت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غَيرةً لهذا الأفق الغريب أن تعود بدُورُهُ أهِلَّة، وتصبح بحورُه ثماداً مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه، وقديماً ضيعوا العلم وأهله، ويا رب محسن مات إحسانه قبله، وليت شعري من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان، وقد كتبت لأرباب هذا الشان، من أهل الوقت والزمان، محاسن تبهر الألباب، وتسحر الشعراء والكتاب، ولم أعرض لشيء من أشعار الدولة المروانية ولا المدائح العامرية، إذ كان ابن فرج الجياني قد رأى رأيي في النَصفه، وذهب مذهبي من الأنفَه، فأملى في محاسن أهل زمانه، كتاب الحدائق معارضاً لكتاب الزهرة للأصفهاني، فأضربت أنا عما ألّف، ولم أعرض لشيء مما صنّف، ولا تعدّيت أهل عصري ممن شاهدته بعمري، أو لحقه أهل دهري، إذ كل مردّد ثقيل، وكل متكرر مملول، وقد مَجَّت الأسماع (يا دار ميَة بالعلياء فالسّند) إلى أن قال بعد ذكره أنه يسوق جملة من المشارقة مثل الشريف الرضي والقاضي عبد الوهاب والوزير ابن المغربي، وغيرهم ممن يطول ما صورته. . . وإنما ذكرت هؤلاء ائتساء بأبي منصور، في تأليفه المشهور، المترجم بيتيمة الدهر، في محاسن أهل العصر. . .

هذا هو كل ما أورده المقري من خطبة الذخيرة، ومن هذا الموضع تبتدئ بقية الخطبة

<<  <  ج:
ص:  >  >>